السؤال
لدي مشكلة في التعامل مع محيطي، أرجو أن تعينوني على حلها، وسؤالي ما هو الخط الفاصل بين اللطف والضعف؟ لأنني أحاول دائما أن أتحلى بأخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتي تدعو إلى التراحم بين المسلمين وخفض الجناح لهم، فمثلا إذا شتمني أحدهم أو أساء إلي بالقول لا أرد عليه، وأعتبر كما لو لم أسمع شتمه وأكمل الحديث بشكل طبيعي وإن كنت متألمة في أعماقي، وإن أساء إلي أحد بالفعل فإني أكظم غيظي وأقابل فعله بالإحسان إليه، رغم أنني قادرة على الرد والانتقام لنفسي، اتباعا لقوله -عز وجل-: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما معناه: (صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عن من ظلمك) وما إلى ذلك من الأخلاق الحميدة، لكن هؤلاء الناس يعتبرون هذا ضعفا وعدم قدرة على مواجهة الآخرين وعدم دفاع عن النفس وعدم ثقة في النفس، ويتمادون في الإساءة من قبيل إن أنت أكرمت اللئيم تمردا.
أنا أعرف أن ما أفعله هو الصواب لأنه هدي النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولكن حين تحدث لي مثل هذه المواقف تباعا ومن عدة أشخاص - ليس كل الناس فهناك أشخاص طيبون ومتخلقون - فأنها تؤثر علي وأتساءل مع نفسي إن كان هذا التصرف ضعفا وإن كان علي أن أقف لهم بالمرصاد حتى لا يتمادوا وأسلم من شرهم وأن أنتقم لنفسي، فما هي الطريقة الصحيحة للتصرف مع من يؤذيني؟
أنا حائرة جدا، أرجو أن تفهموا رسالتي وتجيبوني بنقاط عملية أتعامل بها مع هذا الصنف، وشكرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ سعاد حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فمرحبا بك -أختنا الكريمة- في استشارات إسلام ويب، ونحن سعداء بتواصلك معنا، وقد سرنا جدا هذا السؤال الذي تسألين فيه عن الحد بين اللطف والعفو وبين الضعف والمهانة، وهذا دليل على رجاحة عقلك، فإن حدود الأخلاق والفواصل بينها أمر ينبغي الاهتمام به، وقد نوه العلماء بشرف هذا النوع من المعرفة، كما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه القيم (الفوائد): "للأخلاق حد متى ما جاوزته صارت عدوانا وما تقصرت عنه كان نقصا ومهانة".
وتكلم -رحمه الله تعالى- في كلام طويل عن أهمية معرفة الحدود بين الأخلاق، وأن الخلق يصل بينه وبين ضده فاصل يسير، ومن ذلك خلق العز والتواضع، فإنه يقول: " للتواضع حد إذا جاوزه كان ذلا ومهانة، ومن قصر عنه انحرف إلى الكبر والفخر، وللعز حد إذا جاوزه كان كبرا وخلقا مذموما، وإن قصر عنه انحرف إلى الذل والمهانة"، ثم يقول: "وضابط هذا كله العدل، وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط، وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة".
وهذا الخلق الذي نحن بصدد الحديث عنه وهو خلق العفو والصفح عن الناس، هو من هذه الأخلاق أيضا التي ينبغي للإنسان أن يعرف الفاصل بينها وبين ما يقابلها من أخلاق المهانة والذلة، ويتخلق بأحسن الأخلاق، نسأل الله تعالى أن يرزقنا إياها.
فالعفو والصفح -أيتها البنت العزيزة والأخت الكريمة- هو التجاوز عن المسيء مع القدرة عن الانتقام منه وأخذ الحق منه، فمن ترك المؤاخذة وسامح المسيء مع قدرته على أن ينتصر منه فإن هذا هو العفو الممدوح الذي يحبه الله تعالى، وهو أعلى من مجرد كظم الغيظ، فإن كظم الغيظ معناه إمساك النفس عن الانتقام، أما العفو ففيه شيء زائد على ذلك، وهو ترك المؤاخذة مضافا إليها السماحة مع المسيء، وهذه المرتبة هي أعلى مراتب الإحسان في التعامل مع الآخرين، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} وقد وعد -سبحانه وتعالى- أهل العفو بالأجر الجزيل والثواب العظيم، فقال -سبحانه وتعالى-: {فمن عفى وأصلح فأجره على الله}.
وظاهر جدا من هذه الآية أيتها الأخت العزيزة أن الله -سبحانه وتعالى- قرن بالعفو الإصلاح، فقال: {فمن عفى وأصلح} فاستفاد منه بعض أهل العلم أن العفو يمدح تمام المدح حينما يقترن بالإصلاح، أي حين يكون العفو سببا لإصلاح هذا المسيء، أو كان يترتب من وراء العفو مصلحة شرعية، أما إذا علم الإنسان أن الجاني لا يليق العفو عنه وأن العفو عنه قد يزيده فسادا وقد يؤدي به إلى التمادي فإن العقوبة أحيانا للمسيء هو الأسلوب الأمثل، ولذلك قرن الله تعالى الإصلاح بالعفو في هذه الآية، قال: {فمن عفى وأصلح فأجره على الله} فأحيانا تكون المصلحة الشرعية تقتضي عقوبة المسيء وإيقافه عند حده حتى لا يتمادى في غيه، وهذا هو منهج القرآن في الحث على الفضائل وتحصيل معالي الأخلاق.
ثم العفو عن الناس -أيتها الأخت الكريمة- ليس ضعفا ولا عجزا ما دام الإنسان قادرا على أن ينتصر لنفسه، ولا يكون العفو عفوا حتى يكون صاحبه قادرا على الانتقام، وما دام الشخص يقدر على الانتقام ولكنه يترك ذلك ابتغاء الثواب والأجر من الله -سبحانه وتعالى- وترفع عن مؤاخذة السفهاء بأفعالهم فإنه لا يزداد بذلك إلا عزا وقوة عند الله تعالى وعند نفسه وعند المخلوقين، أما الله فلأنه يحب هذه الأخلاق ويثيب عليها الثواب الجزيل، وأما النفس فلأن ذلك يؤدي إلى تقوية الإرادة لدى الإنسان، فإن من استطاع أن يملك نفسه عند الغضب وأن يمنع شهوته من أن تتغلب عليه بإرادة الانتقام لا شك أنه شخص قوي يستحق الاحترام من نفسه ومن الآخرين، ولذلك جاء في الحديث أنه لن يزيد العبد عفوه إلا عزا، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: (وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا) فإن العز كل العز إنما يكون في قهر النفس ومجاهدتها والسيطرة عليها، ولذلك أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الشديد من يملك نفسه عند الغضب.
فليس صحيحا إذن -أيتها الأخت العزيزة- ما يتعارف عليه بعض الناس أن عفو الإنسان ضعف منه، بل الأمر بخلاف ذلك.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياك لمكارم الأخلاق، وأن يعيننا على التخلق به.