السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لدينا في الإسلام حكمة أن نعيش كل يوم كأنه آخر يوم في حياتك.
لكن، عندما أفكر في تطبيق ذلك، وأقول لنفسي: لو كان هذا آخر يوم في حياتي سأمضي يومي كاملا أسبح وأستغفر، وهكذا تصبح حياتي كلها تسبيح واستغفار.
لن أفكر لو أني أعتقد أني سأموت اليوم، لن أفكر في زواج أو عمل أو غيره، هل هذه الحكمة صحيحة؟ وهل هذا ما يريد الإسلام منا أن نفعله؟
أريد ردكم على كل ما قلته؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ MOSLIM حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن ولاه.
إننا بداية نشكر لابننا الكريم هذا السؤال الهام جدا، وهو أن الإسلام كيف يوفق بين أن يعيش آخر يوم في حياته وبين الأعمال التي يعقدها؟ وكيف أنه سيعمر هذه الحياة؟
الحقيقة حاولنا أن نصحح الكلمة ونكمل العبارة، فإنا نريد أن نقول: المسلم ينبغي أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا، ولا تعارض بين هذا، بل فهم الصحابة هذا المعنى العظيم، وخير ما يدل على هذا المعنى الجميل ما حدث من تنبيه النبي - صلى الله عليه وسلم – لابن عمر، عندما ربط على منكبه وقال له: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وفي بعض الروايات (وأعد نفسك من أصحاب القبور) هذه الكلمات العميقة من نبينا - صلى الله عليه وسلم – تركت آثارا غائرة في نفس ابن عمر، فكان بعد ذلك يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) أعظم به من فهم لهذا الصحابي الشاب الجليل رحمة الله عليه.
(كن في الدنيا كأنك غريب) النبي - صلى الله عليه وسلم – أراد أن يشعره بقصر عمر الإنسان في هذه الحياة، ثم قال: (أو عابر سبيل) وعابر السبيل لا يبالي بما يحدث حوله من ارتفاع الأسعار أو من غلاء الإيجار أو نحو ذلك، لأن همه البلد الذي يريد، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم – بهذا التوجيه القصير – وهو قد أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام، فكان يجمع المعاني الكبيرة في الكلمات الموجزة اليسيرة – كأنه أراد أن يقول للمؤمن الموحد الذي يعيش في الدنيا بجسده أن يكون همه الآخرة، {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}.
الصحابي الجليل تفاعل مع هذا الكلام، فقال: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء) يعني إلا وقد أعددت نفسك للقاء الله، (وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) إلا وقد أعددت للقاء الله عدته، (وخذ من صحتك لمرضك) يعني اعمل في أيام العافية ما تنتفع منه إذا مرضت، (وخذ من حياتك لموتك) أي أيضا يعمل الإنسان في حياته لينتفع به في آخرته إذا دخل إلى قبره، فالناس في غفلة فإذا ماتوا انتبهوا.
الذي يسمع هذا الكلام يخيل إليه أن ابن عمر - رضي الله عنه – ترك الدنيا ودخل إلى المسجد وجلس في الحرم يبكي ويتعبد ويستغفر، لكن عندما نعود لحياة هذا الصحابي الجليل نجد أن ابن عمر كان تجارا من تجار الصحابة، وكان قد قسم حياته نصفين (عام للغزو وعام للحج والعمر). كان ابن عمر - رضي الله عنه وأرضاه
– عالم ومتعلم. كان ابن عمر - رضي الله عنه – ناصح للأمة، حتى كان يدخل للسوق فينصح للناس، فقال له غلامه: نحن نذهب نبيع ونشتري، قال له ابن عمر: نحن لا نذهب من أجل البيع والشراء – يعني فقط – ولكن من أجل النصح ومن أجل السلام على الناس. أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
الذي يلاحظ ويتتبع سيرة هذا الصحابي يجد أنه كان موجودا في الحياة، فكان يتاجر وكان ينفق وكان يتصدق، حتى أنه أنفق ألف صدقة في سبيل الله وأعد ألف غاز في سبيل الله رضي الله عنه وأرضاه.
وكأني بهذا الصحابي الجليل يطبق قول الله {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} فالإسلام لا يطلب من الإنسان أن يترك الحياة وينزوي منها، بل قال سعيد بن المسيب - رحمة الله عليه - : ما رأينا مثل دين هؤلاء. قالوا: ماذا يفعلون؟ قال: يصلي أحدهم الظهر فلا يخرج حتى يصلي المغرب، ويصلي المغرب فلا يخرج حتى يصلي العشاء، وهكذا يصلي العصر فلا يخرج حتى يصلي المغرب، ويصلي المغرب فلا يخرج من المسجد حتى يصلي العشاء.
طبعا لو قيل لنا هذا نقول ما شاء الله، هذا أحسن دين، يا للعجب من هؤلاء، هكذا يكون التدين، لكن نستمع لإجابة إمام التابعين على هذه المسألة، قال للسائل: (ويحك ما هذا بدين، إنما الدين في السعي)، الإنسان عندما يتتبع آيات القرآن {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}.
هذا الضابط الأخير يحول الحياة من ألف إلى عبادة، وذكر الله المراد هنا ليس باللسان فقط، ولكن ذكر الله باللسان، ذكر الله بالقلب، ذكر الله عند ورود أمره، ذكر الله عن ورود نهيه، أن يبتعد عن الغيبة والرشوة والنميمة، ذكر الله بتطبيق منهجه، ذكر الله في الأحوال التي علمنا إياها رسولنا - عليه صلوات الله وسلامه –
إذا دخلنا، إذا خرجنا، إذا أكلنا، إذا شربنا، إذا نمنا، إذا عطسنا ... إلى آخره. ذكر الله كذلك بمراقبته سبحانه وتعالى في السر والعلن.
إذن نحن نريد أن نصحح مفهوم الذكر أيضا، فإن الذكر في تطبيق هذا المنهج، ذكر الله عند الإسراع في الطاعة، عند ورود نهي، تبتعد عن المعصية، ذكر الله عند الأحوال التي علمنا إياها رسولنا – عليه الصلاة والسلام – ذكر الله بتطبيق منهجه {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}.
الإسلام إذن دين يرفض الرهبانية، ويرفض الجلوس في الأديرة، بل يريد من الإنسان أن يعمل، وما أجمل أن يجعل الفلاح مسبحته وفأسه فيشتغل بذكر الله ويعمل، ويد العامل يد يحبها الله تبارك وتعالى، والنبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: (إذا قامت القيامة وبيد أحدكم فسيلة – شتلة – فاستطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل)، فالإسلام دعوة إلى العمل ودعوة إلى السعي بطاعة الله تبارك وتعالى.
إذن التصور الإسلامي من خصائصه التوازن والشمول، هذا التوازن الذي يزن بين الدنيا والآخرة، يزن بين حاجات النفس وحاجات الجسد وحاجات الروح، بين الدنيا وبين الآخرة، فإن الدنيا هي مطيتنا ومزرعتنا إلى الآخرة، فينبغي للإنسان أن يعمل في الدنيا خيرا ويسعى بالخير، وكلنا يعلم أن السعي في حاجة الأخ يعدل اعتكاف مسجد النبي - عليه صلوات الله وسلامه – كما جاء عن رسولنا بذلك الأثر.
إذن الإسلام دعوة إلى العمل ودعوة إلى أن يعيش الإنسان يومه كأنه يعيش أبدا، ويعمل أيضا لآخرته كأنه يموت غدا، فهو أيضا في استعداد، والإنسان مهما فكر في هذه الحكمة فإنه لا يوقف مسيرة الحياة أن تمضي.
الإسلام يدعو هذا الإنسان لأن يعمل في هذه الحياة، حتى قال النبي صلى لله عليه وسلم : (إذا قامت القيامة وبيد أحدكم فسيلة - يعني شتلة - فاستطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل)، والإمام الطبري رحمة الله عليه كان يطلب العلم إلى آخر اللحظات، حتى لحظات السكرات سمع مسألة جميلة فقال أجلسوني ثم طلب الدواة والقلم ثم كتب ما سمع، فقيل له: وأنت في هذه الحالة؟ قال: ينبغي للإنسان أن لا يضيع شيئا من حياته.
قيل للإمام أحمد: إلى متى تحمل المحبرة؟ قال: المحبرة إلى المقبرة، وكان معاذ رضي الله عنه وأرضاه قد أصيب في الطاعون وسبقته إلى الآخرة زوجته، قيل له وهو في تلك الحال بين يدي الموت: زوجوني، قيل: يرحمك الله وأنت في هذه الحالة؟ قال: فإني أكره أن ألقى الله عزبا.
إذن يتضح من هذا أن السلف رغم أنهم كانوا يوقنون أن الحياة قصيرة وأن الإنسان سينتقل بين لحظة وأخرى، إلا أن هذا لم يمنعهم من فعل الخير، ولم يمنعهم من أن يفكروا في الزواج، أو من أن يفكروا في طاعة الله تبارك وتعالى ويزدادوا علما، فكان همهم أن تستمر هذه الحياة وأن يعمل الإنسان إلى آخر لحظة في حياته.
لذلك كانوا يجاهدون كبارا ويجاهدون صغارا، واجتهد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه في الجهاد وتحمس له في آخر عمره، فقيل له: يرحمك الله وأنت في هذه الحالة؟ قال لهم: إن الجواد إذا قارب نهاية المضمار ونهاية السباق أخرج كل الذي عنده، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
هذا يدل على فقه أن الإنسان في اللحظات الأخيرة أيضا يجتهد في الطاعات، وهذا الإسلام بهذا التصور الجميل للحياة يجعل الإنسان يعمل على يلقى الله تبارك وتعالى، بل يعمل وهو في آخر رمق، وأهل الإسلام فهموا هذا المعنى العظيم، حتى إذا كانوا يصافوا في الجهاد كما حصل ذلك للرجل الذي كان يدافع عن فسطاط خالد بن الوليد، وكان خالد مريضا في بعض أيام القادسية، نادى مناد: يا معشر المسلمين عريش سعد، فرجع هذا المسلم فقاتل الفرس حتى قتل منهم ثلاثة أو أربعة أو خمسة، ثم ضربوه في بطنه، فسالت أمعائه في الأرض، فنادى يا معشر المسلمين: من يساعدني على حمل أمعائي، فساعدوه، فحمل الأمعاء، ثم دخل يواصل ويقاتل حتى مضى إلى الله تبارك وتعالى.
إذن الإسلام دين يدعو إلى العمل ويدعو إلى الحركة، وإيمان الإنسان بأن هناك آخرة وأنه سيموت غدا وأنه في آخر لحظة لا يبرر له التوقف عن الطاعات، بل كانوا يحرصون على أن يموت الواحد منهم على طاعة وعلى أمر يقربه إلى الله تبارك وتعالى.
الإسلام إذن يريد منا أن نعمل ويريد منا أن نفعل ويريد منا أن نشارك، ويريد منا أن نعيش هذه الحياة أيضا ونخطط ونعمل ونجتهد، لكن مع ذلك نحن لا ننسى هذه الحقيقة أن الإنسان سيمضي، إذا كان الإنسان في طاعة الله فإنه لا يبالي إن وقع الموت عليه، بل سيردد ما قاله بلال (مرحبا بالموت حبيب جاء على شوق).
الجميل ابني الكريم للإجابة على هذا السؤال لا توجد إلا في الإسلام، ذلك المسلم عندما يتذكر الموت، فهذه ظاهرة صحية لأن يراجع نفسه، يجتهد في طاعته، يتقرب إلى الله تبارك وتعالى، بعكس المنافق والكافر فإنه إذا تذكر الموت يصاب بالهيستريا والخوف، وربما يفعل المنكرات لأنه يريد أن يحصد أو يجمع الأموال بالحرام، لأنه يريد أن يجمع قبل أن يدركه الموت.
إذن هذه الحكمة صحيحة لكن بهذا الفهم الذي أشرنا إليه، مثل ما قلنا أن يعمل الإنسان لدنياه كأنه يعيش أبدا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدا، وهذا أمر ينبغي أن نحفظ فيه هذا التوازن، لأن الإسلام يوازن بين الدنيا والآخرة، يوازن بين حاجات الجسد وحاجات الروح، فإذن حق لنا أن نحمد الله على نعمة هذا الدين، وعلينا كذلك أن نعمل في كل أمر يرضي الله تبارك وتعالى، وينبغي أن تستمر في حياتك بطريقة طبيعية، فتتزوج وتعمل وتجتهد وتخطط وتركز، وأنت في ذلك لا تنسى الآخرة ولا تنسى الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، بل الواحد منا ينبغي أن يفكر في الخيرات ويخطط الخير، فإن انخرمت به أيام العمر فإنه يجزى على نياته الصالحة، وعند ذلك تكون هذه النية خيرا له من العمل.
ننبه ابننا الكريم إلى ضرورة أن يحرص على الفهم، وأن يكرر مثل هذا السؤال، التسبيح والاستغفار لا يمنع الإنسان من الكدح والعمل، بل كما قال بعض السلف: ما أحسن أن يجعل الإنسان مسبحته وفأسه، فيستطيع الإنسان أن يسبح وأن يعمل في آن واحد، بل إتقان العمل وحرصه على أن يؤدي العمل على الوجه الذي يرضي الله، هذا لون من العبادة ولون من الطاعة الله تبارك وتعالى.
الإنسان يعمل ويراقب الله تبارك وتعالى، وذكر الله عند ورود أمره وعند ورود نهيه وبتطبيق منهجه، وبالمحافظة على الأذكار في الأحوال التي علمنا إياها رسولنا - عليه صلوات الله وسلامه – ويكون ذلك بمراقبة الله تبارك وتعالى القائل: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} القائل: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} ما هو الضابط الذي يحول الحياة إلى عبادة؟ {واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}
نسأل الله العظيم أن يفقنا وإياك في الدين وأن يلهمنا السداد والرشاد، هو ولي ذلك والقادر عليه. وأكرر شكري لك على هذا الحرص على السؤال، فإنما شفاء العي السؤال، ونحن على استعداد في أن نجيب مثل هذه التساؤلات لأبنائنا، فنحن في خدمتهم وشرف لنا أن نوضح مثل هذه المفاهيم.
نسأل الله العظيم أن يعيننا وإياك على الذكر والشكر، وأن يستخدمنا فيما يرضيه، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجه الكريم، ونشكر لك، ونسأل الله تبارك وتعالى لك التوفيق والسداد، وأستغفر الله العظيم لي ولك، وجزاكم الله خيرا.