السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
انا أعيش في حي سيء مليء بالمخدرات واللصوص، فمنذ أن كنت صغيرا كانت أمي تحبسني في المنزل ولا ألعب في الشارع، ولم أستطع تكوين أصدقاء، فكنت أقرأ كثيرا.
والآن بعد أن اجتزت مرحلة الأساس مللت من القراءة ومن المنزل، وحتى من أهلي، وأعيش وحيدا لا أهل ولا أصدقاء، ألعب بالجوال وأشاهد التلفاز، وإلى الآن تمنعني أمي من الخروج خوفا علي من المخدرات والسرقة، فكرت كثيرا في الانتحار، ولكني أخاف من الله، فلم أستطع أن أقتل نفسي.
أنا الآن قد انتهيت من امتحانات الشهادة الثانوية، وأفكر في الهروب لبلد آخر، ولكن لا أعرف الطريقة، والآن ألوم أمي وأبي على ما حصل لي، ولكن لا أصارحهما بذلك، لأني لا أملك الشجاعة لقول ذلك لهما، فماذا أصنع؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عمر .. حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أسأل الله أن يحفظك – أخي العزيز- من كل مكروه وسوء، وأن يرزقك الصبر وعظيم الثواب والأجر، وأن يفرج همك، ويشرح صدرك، وييسر أمرك، وينير عقلك، ويلهمك الرشد والصواب، والهدى والسداد.. آمـين.
لا أخفي عليك – ولدي الحبيب – أجدني متفهما ومتعاطفا معك، حزينا متأثرا لأجلك، وأرى في قلبك إيمانا ونورا، وفي قلبك خيرا وطيبة، إلا أنني أجدني أيضا متفهما متعاطفا مع والدتك الكريمة في عزلتك عن محيطك وبيئتك السيئة؛ خوفا عليك من التأثر السلبي بها، ولا يخفاك قلب ومشاعر وعاطفة الأم الجياشة والفياضة في أقل من هذا، فكيف والظروف من حولك غاية في السوء؟ سلمكما الله تعالى.
- نعم، كان الواجب على الوالدين الانتقال من هذا المحيط وهذه البيئة السيئة إلى محيط وبيئة صالحة ما أمكن، لكني لا أدري ما مدى قدرة الوالدين المادية والاجتماعية على هذا التحول والانتقال؟ كما كان الواجب عليهما وضع حلول وسطى بين جريمة (الخلطة) لهذا المجتمع السيء وجريمة (العزلة) المطلقة عنه، فكلا طرفي قصد الأمور – الإفراط أو التفريط – ذميم.
لا شك أن (العزلة المفروضة) عليك لها أثر سيء على نفسيتك، مما قد يجلب لك القلق والاكتئاب والاضطراب النفسي، إلا وبما أنك شاب متدين عاقل - فيما يظهر من لغة وثقافة رسالتك الكريمة أسأل الله لك الثبات والصبر- ، يمكنك تجاوز المشكلة - بإذن الله - وذلك باتباع الآتي :
- وجوب الإعراض والتخطي والتناسي لهذه المشكلة وآثارها السيئة، وذلك بعدم استدعاء استحضارها وتذكر آلامها بتفهم وجهة نظر والديك ومستواهما الثقافي وحسن الظن بهما بل وشكر معروفهما. الذين أمرنا بمصاحبتهما بالمعروف ولو كانا يجاهداننا على الشرك {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا}.
- تسامح – بل وأسرف في تسامحك – مع الذين أخطئوا في حقك والتمس لهم الأعذار؛ فالتسامح يشرح الصدر ويريح البال ويعيد إليك الثقة بالناس واحترام الآخرين لك {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}، {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}.
- اغسل – أخي الحبيب – تجاعيد الكراهية واليأس من قلبك وذاكرتك بالصبر الجميل، وذلك بأن تقابل الابتلاء والآلام والهموم والأحزان بالابتسامة الصادقة والقلب النظيف والتعامل الحسن والنفس المرحة والكلمة الطيبة، وأن تبتلى وقلبك - قبل لسانك - يقول: الحمد لله. عدد نعم الله عليك بدلا من أن تحصي متاعبك وتستحضر همومك {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار}.
- حسن الظن بالله والثقة به ثم بنفسك وأن يحدوك الأمل والتفاؤل في الاستفادة من دروس وعبر الماضي ببناء المستقبل المشرق على أساسه، وبذلك تتحول المحنة إلى منحة {لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم}، كمن يجعل من الليمون الحامض شرابا حلو المذاق.
- تعلق بربك تعالى، ولا تربط سعادتك ونجاحك في حياتك بظروفك وأحوالك، فهي عرضة للتقلب وإذا لم تعرف حقيقة الدنيا وحقارتها عشت الهم والكدر، فحين تكون جنتك في قلبك – بإيمانك ويقينك بربك – فلن تستطيع أحزان الماضي وتحديات الحاضر أن تكدر عليك حياتك وإيمانك {ومن يؤمن بالله يهد قلبه}، {من يعمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.
- اعلم أن الدنيا دار ابتلاء وفناء وممر، وأن الله إذا أحب عبده ابتلاه، وأنه – سبحانه – لا يقدر شيئا إلا لحكمة، واعلم أن اختياره لك خير من اختيارك لنفسك، فأحسن الظن بربك، واصبر على بلائه، وارض بقضائه، فالقضاء مفروغ منه، والمقدور واقع، وكل أمر مستقر، و((أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك رفعت الأقلام وجفت الصحف)) [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
ما مضى فات، والمؤمل غيب ** ولك الساعة التي أنت فيها.
- فحزنك وحقدك ويأسك لا يقدم في الواقع شيئا ولا يؤخر ولا يزيد ولا ينقص، وجميل أن تصرف تفكيرك عن الانتحار فهي جريمة عظيمة ودليل ضعف الثقة بالله تعالى وبالنفس وموجب لمضاعفة عذابك في الدنيا والآخرة {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}. كما ومن الجميل أن تكمل دراستك الثانوية رغم متاعبك النفسية.
- احذر من أن تمل من الصبر والدعاء، فلو شاء الله لحقق لك مرادك وغير حالك في طرفة عين، عليك بكثرة اللجوء إلى الله بالإكثار من الذكر والدعاء وقراءة القرآن والعمل الصالح، فمن اقترب من الخالق لن يحمل هم الحياة وشعر – ولا شك – بالأمان والدفء والعون والقوة والعزة والحنان، فهو الذي بيده مفاتيح الفرج، فلا تفكر في صعوبة ظرفك ولكن فكر في قوة وقدرة من تدعوه، فمهما بدت لك الأمور مستحيلة وزينت لك النفس الأمارة والهوى الخداع والشيطان الرجيم استحالة تغييرها إلى الأحسن فتذكر قوله تعالى : {كذلك قال ربك هو علي هين}، وقوله سبحانه : {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}، وتذكر معية الله تعالى للصابرين والمصلحين والمحسنين والمتقين كما في آي القرآن الكريم {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}.
- يمكنك الآن – بإذن الله – بعد الاستفادة من عبر ودروس الماضي الخاطئة والمؤلمة أن تتدارك أمرك وتحسن إدارة نفسك ووقتك وحياتك ومستقبلك بالجد والاجتهاد والمثابرة والمصابرة {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}، ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)).
- أوصيك بقراءة القرآن الكريم والسيرة النبوية بتدبر، وقراءة تجارب الناجحين من العلماء والمفكرين والتي لا تخلو من مآس وآلام وجراح كانت مقدمة للإنتاج والإبداع والنجاح، كما أوصيك بقراءة الكتب الأربعة التالية: (الوسائل المفيدة للحياة السعيدة): للشيخ عبد الرحمن السعدي، (جدد حياتك) : للشيخ محمد الغزالي، (لا تحزن) : للشيخ عائض القرني، (استمتع بحياتك) : للشيخ محمد العريفي.
- ويمكنك تحويل طاقتك السلبية إلى إيجابية بمعاودة القراءة ومزاولة الرياضة، والخروج مع الصحبة الطيبة إلى الدروس والمتنزهات، اكسر جدار الحزن والعزلة، وواجه تحديات الحياة بكل إيجابية وثقة ورضى وحب وشجاعة.
وفقك الله وعافاك وسددك وأسعدك في دينك ودنياك وآخرتك.