السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
طالب جامعي، مقيم في المملكة العربية السعودية فترة دراستي فيها، ولكن -الحمد لله- تزوجت ورزقني الله في هذا الشهر ببنت أسال الله أن يحفظها.
أنا الآن في بلدي اليمن لقضاء الإجازة مع الأهل، وقرب موعد سفري للمملكة، ولكنني لا أستطيع السفر كلما تذكرت بعدي عن ابنتي وزوجتي، والله ثم والله حالتي النفسية صارت للأسوأ، وكلما أتذكر أنني سأسافر وحيدا بعيدا عن أسرتي أشعر باليأس والقلق النفسي والاكتئاب وأفكر أن ألغي سفري للمملكة نهائيا وأعيش بين أسرتي، علما أنه تبقى لي سنتان على إكمال دراستي، أرجوكم أفيدوني فقد تعبت كثيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الأخ الفاضل/ أبو إيلين حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
- بارك الله فيك – أخي الفاضل – , وأشكر لك حسن ظنك وتواصلك مع الموقع, سائلا الله تعالى لك التوفيق والسداد وأن يلهمك الصبر والثبات والقوة والحزم والعون والهدى والرشاد.
- لا يخفاك أن رسالتك الكريمة قد أحزنتني – حفظك الله وعافاك وقواك - وما تضمنتها من التعبير عن شديد لوعتك وحرقتك من ألم الغربة وفراق الزوجة وابنتك الصغيرة – حفظهما الله وجمع بينكم على خير – ولا غرابة في ذلك, فقديما عبر الأدباء والشعراء عن مدى شوقهم لأهلهم وأرضهم وزوجاتهم بما يدل على تفجر بركان الشوق وذرف الدموع وعجز الروح عن النسيان، وكلنا - أخي الحبيب - قد انتابتنا - بل سيطرت علينا أحيانا - هذه المشاعر الفياضة, وهي مشاعر طبيعية وعاطفية ولا شك مؤلمة ومحزنة يصعب البوح بها والتعبير عنها.
- لا يعرف الشوق إلا من يكابده ** ولا الصبابة إلا من يعانيها
يسهر الليل إلا من به ألم ** لا تحرق النار إلا رجل واطيها
روح المحب على الأحكام صابرة ** لعل مسقمها يوما مداويها.
- إلا أن الواجب على العاقل ان يتوازن ويعتدل في ضبط مشاعره وأحاسيسه، وأن يقتصد ولا يسرف ولا يجاوز الحد في الحب والبغض، لما لا يخفى عليك من ذم الشرع لكل من الإفراط والتفريط (الغلو والجفاء) في كل شيء ومنه المحبة والبغض, فقد صح عند مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيفما يشاء)، كما صح موقوفا عن علي: (أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما, وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما).
- واعلم بأن هذه المشاعر - الرقيقة المؤرقة - مؤقتة لا تلبث حتى تزول -بإذن الله- بعامل الزمن والانهماك في العمل شأن غيرك ممن فرضت عليهم ظروف الهجرة والغربة, بل النزوح والتشريد في الأرض, بل إن بعض المهاجرين ربما أحبوا دار هجرتهم وغربتهم مع عامل الزمن أكثر من ديارهم الأصلية مسقط رأسهم ؛ ذلك أن وطن الإنسان – في الحقيقة – حيث سلامة دينه ومصلحته العلمية والعملية, وما أجمل قول بعضهم:
دخلنا مكرهين لها فلما ** ألفناها , خرجنا مكرهينا
وما حب الديار بنا ولكن ** أمر العيش فرقة من هوينا.
- وإن لك أسوة حسنة في الرسول وأصحابه من المهاجرين والمجاهدين الذين ألزمتهم ضرورة الأذى أو واجب الجهاد بالهجرة والاغتراب, وكان من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- يخاطب مكة: (والله إنك لأحب البقاع إلى الله, وإنك لأحب البقاع إلي, ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت) رواه مسـلم، وكذا في أبناء الجاليات والمهاجرين والمغتربين في الأرض الذين لهم حنين كحنينك وآلام كآلامك الذين ألجأتهم الحروب أوالظروف المادية ونحوها إلى البعد عن الأهل والأرض والزوجات والأولاد وتحمل آلام الغربة المضنية.
- نعم فإن الغربة ممنوعة في الأصل؛ لما تتضمنها وتستلزمها من مفاسد في النفس والأهل لا تخفى, لكنها تشرع عند شدة الحاجات التي تنزل منزلة الضرورات, أو عند الضرورات التي تبيح المحظورات دفعا لمفاسد أكبر كمفاسد الجهل والمرض والفقر، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
"تغرب عن الأوطان في طلب العلا ** وسافر في الأسفار خمس فوائد
تـفـرج هــم واكـتـسـاب مـعـيـشـة ** وعلم وآداب وصحبة ماجد".
"سافر تجد عوضا عمن تفارقه ** وانصب فإن لذيذ العيش في النصب"
ولذا فإني أوصيك بالتالي: لزوم الصبر والتجلد والتحمل حتى يكتب الله لك فرجا ومخرجا, (من يستغن يغنه الله, ومن يستعفف يعفه الله, ومن يتصبر يصبره الله, وما أعطي أحد عطاء خيرا ولا أوسع من الصبر) رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني, ولا أنصحك بالبقاء في بلدك إلا للضرورة, حيث والأولى لك تحمل مشاق الاغتراب لطلب العلم وجمع المال حفظا لمصالح مستقبلك العلمي والاقتصادي, ومن لم تكن بدايته محرقة, لم تكن نهايته مشرقة, ومن يفرح أخيرا يفرح كثيرا, والعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات.
- البعد عن الفراغ القاتل وصحبة السوء, وشغل النفس بما ينفعها في دينها ودنياها ؛ فإن الوقت والنفس إن لم تشغلهما بالحق شغلتك بالباطل, إن الشباب والفراغ والجدة ** مفسدة للمرء أي مفسدة.
- الترويح عن النفس ودفع التوتر والقلق والاكتئاب بالخروج مع الصحبة الصالحة إلى المتنزهات وممارسة الرياضة ونحوها, ولا يخفاك أن وسائل التواصل والاتصال قد أسهمت مؤخرا في تخفيف آلام البعد والغربة بفضل الله تعالى.
- لزوم الدعاء والذكر والعبادة وقراءة القرآن وطلب العلم النافع والعمل الصالح (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
- احتساب ثواب الغربة واستحضار مقاصدها الشرعية والاقتصاد في المعيشة لتوفير المال اللازم للأسرة إما لجلب الإقامة لهم ما أمكن أو لنية الاستقرار في بلدك بعد رفع حالة الضرورة الملجئة لغربتك بإذن الله تعالى.
- حسن الظن بالله واصطحاب روح التفاؤل والطموح والأمل وقوة الإرادة, والتزام تقوى الله في غربتك والتوكل عليه (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا) قال تعالى: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)، وفي الحديث: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف احرص على ما ينفعك, واستعن بالله ولا تعجز) رواه مسلم.
- هذا وأسأل الله تعالى أن يفرج همك ويكشف غمك ويزيل كربتك ويرزقك الصبر والاحتساب والأجر ويجمع شملك مع أهلك وأحبتك قريبا وعلى خير, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.