السؤال
لم أعد أدعو، ولكني أستغفر، حتى وإن أردت أمرا ما، لا أدعو بهذا الطلب، ولكن أستغفر، وأقول دعاء خيري الدنيا والآخرة، فهل هذا معناه الجزع مني وعدم الرضا؟ علما أني مررت بأكثر من تجربة مسبقا مع الدعاء ولم يستجب الله مطلوبي بعينه، ولكن رأيت أن ذلك الخير لي في بعضه، والبعض الآخر لا أعلم إلى الآن، وقد أصابني فترة الكسل والفتور في العبادة، ولكن قرأت كثيرا من فتواكم -أثابكم الله- وعلمت أن الاستجابة على ثلاث صور، فأصبح حالي أني حتى إذا أردت أمرا بشدة لا أدعو ولكن أستغفر، لأني أعلم أن الله يعطي الذاكرين أكثر مما يعطي السائلين، ولأن الله يستجيب بعلمه الأوسع وفضله الكريم، فلا أريد أن أسأل عن شيء بعينه حتى لا أتعلق به.
فهل حالي هذا توكل وتفويض واستسلام لله؟ أم هو صورة أخرى من عدم الثقة في الدعاء، والفتور؟
أفيدوني جزاكم الله عنا خيرا وعن جميع المسلمين.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ نوران حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك في موقع الشبكة الإسلامية؛ ونسأل الله أن يصلح شأنك؛ والجواب على ما ذكرت يكمن في الآتي:
- اعلمي أن الدعاء عبادة عظيمة؛ ومن أجل القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ۚ إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) وقال تعالى: ﴿وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ۚ إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) وعن النعمان بن بشير قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الدعاء هو العبادة ثم قرأ الآية " رواه الترمذي، والإنسان الذي يلتزم في دعائه بالآداب والشروط المطلوبة، كان دعاؤه جديرا بالإجابة، فقد حكى لنا القرآن الكريم في آيات كثيرة أن الأنبياء أجاب الله دعاءهم وحصل مقصودهم.
- أمر آخر: ينبغي أن تعلمي أن من آداب الدعاء حسن الظن بالله تعالى، واليقين بأن الله يجيب دعوة من دعاه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه " رواه الترمذي، واليقين وحسن الظن بالله أن يعتقد الإنسان أن الله سيجيب دعاءه.
- ومما ينبغي أن تعلميه أيضا أنه لا ينبغي الاستعجال في الدعاء؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت ربي، فلم يستجب لي" متفق عليه، وفي رواية لمسلم: "قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء" فلابد من مواصلة الدعاء والاستمرار عليه.
- ومن المعلوم أن تأخر إجابة الدعاء أو عدم الإجابة بالمرة، هذا خير للداعي؛ لأن الله حكيم وأعلم بما يصلح لعباده، وهذا من حسن الظن بالله، أن نعتقد أن الله أراد بنا خيرا وإن لم يجب دعاءنا، ومن ذلك الخير قوله صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذا نكثر، قال: الله أكثر" رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم من رواية أبي سعيد وزاد فيه: "أو يدخر له من الأجر مثلها".
فإذا كان الإنسان بين هذه الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث؛ فما عليه إلا الاستمرار في الدعاء والإكثار منه، لأن عواقبه حميدة في الدنيا والآخرة، وهذا ما قاله بعض الصحابة "إذا نكثر".
- ثم إن قولك "لم أعد أدعو، و لكني أستغفر" الاستغفار هو نوع من الدعاء؛ لأن فيه طلب محو الذنوب الماضية وسترها، وتبديل الحال إلى أحسن حال؛ فعليك الاستمرار في الاستغفار والإكثار منه، ولكن الدعاء بأي أمر تريدينه من خيري الدنيا والآخرة، سواء بشكل عام كالهداية والتوفيق والإعانة، أو بشكل خاص في أمر يخص حياتك، فهذا مرغب فيه شرعا، لأننا بحاجة إلى الله في كل وقت وفي كل شأن من شؤون حياتنا، والدعاء من الأمور التي جعلها الله لنا معينة وفيها التيسير لأمورنا؛ ولهذا أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم أمته فقال " ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع " رواه التبريزي في مشكاة المصابيح وحسنه الألباني، فإذا كان إصلاح النعل أمرا يسيرا في نظرنا، ولكنه قد يصعب علينا، ومع هذا فالدعاء سيجعل الأمر متيسرا بإذن الله تعالى.
- إذا تركت الدعاء فلاشك أن لهذا الترك أسبابا، منها الاستعجال في الإجابة، وكأنه لا فائدة من الدعاء إذا لم تحصل، ومن الأسباب الجهل بأن الله يجيب من دعاه في كل أمر معين أو عام قل أو كثر، ومن الأسباب التي تجعلك لا تكثرين من الدعاء عدم إدراك أهمية الدعاء وفضله، وأنه عباده جليلة، ومن الأسباب أيضا العجز والكسل الذي يجعل الإنسان لديه فتور عن هذه العبادة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا العجز بقوله " أعجز الناس من عجز عن الدعاء وأبخل الناس من بخل بالسلام" رواه الطبراني في معجمه الأوسط وإسناده صحيح، وعلى هذا ينبغي النظر في هذه الأسباب وسرعة معالجتها، ثم الاستمرار في الدعاء ولو كان قليلا.
- أما قولك (فلا أريد أن أسأل عن شيء بعينه حتى لا أتعلق به، فهل حالي هذا توكل وتفويض واستسلام لله أم هو صورة أخرى من عدم الثقة في الدعاء والفتور) والجواب عن هذا: أن الدعاء بأي أمر معين مطلوب شرعا، والله كريم منان، فلهذا لا ينبغي التوقف عن الدعاء به، بل عليك الدعاء بكل أمر معين فيه خير لك ولو كان أمرا يسيرا، وأما مسألة التعلق بحصول ذلك المعين فهذا أمر يقدره الله، والمؤمنة ترضى بقضاء الله وقدره، فإذا لم يتحقق فلاشك أن هذا خير لك، ولعل تحقيقه سيأتي بعد زمن وليس الآن، فلا داعي للاستعجال، ثم إنك تريدين حصول ذلك المعين، ومن أسباب حصوله النافعة التضرع إلى الله، فإذا تركت الدعاء فهذا قد يجعل حصوله بعيد المنال، فالأولى بك الدعاء وليس تركه.
- ثم اعلمي أن ترك الدعاء ليس من التوكل على الله ولا من التفويض له، بل قد يكون لديك ضعف في الثقة بالله تعالى، ومن الفتور الذي أصابك الذي جعلك تتركين الدعاء، ولهذا نوصيك بالدعاء والإكثار منه، مع الالتزام بآدابه الشرعية حتى تحصل لك الإجابة، وأختم بقوله تعالى (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).
وفقك الله لمرضاته.