السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سيدي الفاضل/ أنا الآن في عامي ال20 بصحة جيدة، وتخصص جامعي عظيم، وحالة اجتماعية ميسورة ولله الحمد والمنة على كرمه ولطف وعطائه، ولكني مشوهة نفسيا، ووالله ما شهد أحد لي إلا بأني على خلق وبعقل يجيد وزن الأمور، ولكني أشهد لنفسي أنني محطمة ومكسورة.
منذ الصغر وأنا أشهد خلافات والدي، كان الأمر عاديا بناء على أن هذا هو القدر وعلي تحمله والرضا به، حتى أنني والله كنت إذا سمعت كلمة طلاق فزعت وبكيت ودعوت الله أن لا يكون، ومع تراكم المواقف وخاصة من جانب والدي الذي لا أعلم لماذا لا يناقش ولا يسمح بالنقاش، وإن سمح أنهاه بأمره تاركا عباراتي على خدي جراء محاولة فاشلة في مناقشته.
منذ الصغر يخبرني أن علي خلع نظارتي لأنني لا أبدو جميلة بها حتى تضرر بصري طبيا، يلومني على شكل أسناني، وعندما أخبره أنني بحاجة إلى تقويم يصرخ: أن لا، ثم يستمر بكلماته حتى والله إلى يومنا هذا ما أقوى على ضحكة كاملة خوفا من شكلي، هذا وناهيك عن شعري وحتى هيئة قدمي التي لا حول لي بها ولا قوة والله إنها طبيعية لا مرض فيها ولا شيء.
ثم إنني أكبر إخوتي فما كان بمصيبة تحدث إلا وكنت أتحملها ولا شيء أفعله إلا وأجد استهزاء، ولا طلعة خرجتها إلا عدت فيها باكية، حتى عندما كبرت وأخبرته برغبتي في النقاب حتى رفض خوفا على أن لا أتزوج.
والآن فوالله إن قلبي عليه لممتلئ، ووصل بلساني حد الدعاء، وأتمنى له الرحيل، وأصبحت أتجنبه، وأتألم بصوته حتى وصل بي أن أنام 20 ساعة، فما الحل؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الأخت الفاضلة/ نور حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أتفهم مشاعرك -يا ابنتي- ومن المؤلم حقا رؤية فتاة في عمر الزهور تعاني مثلك، ومن الواضح بأنك إنسانة على قدر عال من الخلق والدين، فما مشاعر الندم وتأنيب الضمير على ما يراودك من مشاعر سلبية نحو أبيك إلا دليل على ذلك.
وأشكرك على طلبك للمساعدة فلقد خطوت بذلك الخطوة الصحيحة حتى لا تتفاقم معاناتك أو تقعي في صدام مع أقرب وأحب الناس إليك، وأريد أن أبدأ كلامي بالتأكيد على حب أبيك لك، وأن تصرفاته الفجة معك لا تعكس مشاعره الحقيقية نحوك، فهو حتما لا يقصد إهانتك أو جرح مشاعرك، بل أريدك أن تنظري إلى الصورة كما يلي: إن والدك يحبك جدا، لكنه لا يعرف كيف يتعامل مع مشاعره السلبية ولا يمتلك مهارات التواصل والتعبير الصحيحة، ولا يعرف الطريقة السليمة في إبداء الرأي أو إعطاء النصيحة، والطريقة الوحيدة التي تعلمها وأصبح يتقنها هي طريقة جارحة وغير مقبولة ولعله يستخدم نفس الطريقة مع بقية أخوتك وإخواتك بل وقد يكون يستخدمها مع والدتك ومع أناس آخرين، كل هذا وهو غير مدرك لما يسببه من أذية نفسية لهم، وغير مدرك إلى أنه يخسر علاقاته معهم.
إن شخصية الإنسان -يا ابنتي- تتشكل في سنوات الطفولة المبكرة ثم تتبلور في مرحلة المراهقة، ثم بعد ذلك تصبح واضحة المعالم ويصعب تغييرها.
ورغم أن هنالك عاملا وراثيا في طبيعة الشخصية إلا أن العامل الأهم والذي يلعب دورا أساسيا في تشكل شخصية الإنسان هو طريقة التربية والتجارب والخبرات التي تعرض لها في سنوات الطفولة المبكرة.
إن والدك قد اكتسب هذه الشخصية المضطربة وصفاتها منذ الصغر، لأنها كانت النموذج الذي اعتاد على رؤيته منذ طفولته ورافقه ذلك في كل مراحل تطوره فتشكلت لديه مثل هذه الشخصية المضطربة والتي تهزأ بالآخرين وتقلل من شأنهم ولا تتعاطف معهم ولا تلتفت إلى مشاعرهم.
وبالطبع من الصعب جدا تغيير صفات الشخصية في مثل هذا السن، فلا يوجد بين أيدينا بعد أدوية تعالج اضطرابات الشخصية، والعلاج الوحيد هو العلاج السلوكي المعرفي، وهذا يتطلب عن جلسات كثيرة ولسنوات طويلة مع طبيب مختص في مثل هذه الاضطرابات وحتى لو تم ذلك فإن النتائج غير مرضية في أغلب الأحيان، لأن الشخص يرفض الاعتراف أصلا بأن لديه مشكلة وبالتالي لا يتقبل فكرة العلاج.
وأنا لا أقصد من هذا الكلام أن أبرر تصرفات والدتك فتصرفاته خاطئة وغير مقبولة بكل المقاييس، وهذا أمر محسوم، لكن أردت أن أطلعك على حقيقة أنه من الصعب جدا أن يتغير والدك في هذا العمر، وإن التغيير يجب أن يكون من قبلك أنت، فيجب أن تتعلمي كيفية التواصل مع شخصيته عن طريق تغيير ردة فعلك على تصرفاته وأقواله الجارحة حتى تقللي قدر الإمكان من الأذى النفسي الذي تسببه لك، وأنصحك بما يلي:
1- حاولي أن تتحكمي بالتوقيت والمدة والظرف التي تجالسين فيه والدك، فإن شعرت مثلا بأنه في مزاج سيء (وعادة هذا هو أكثر وقت يمكن أن تظهر فيه صفات شخصيته السلبية) فتفادي الجلوس معه في ذلك الوقت كليا، لكن افعلي ذلك بطريقة لبقة فمثلا: اطرحي السلام عليه وأشعريه بأنك مهتمة به فقولي له مثلا: يبدو بأنك متعب يا والدي، فهل لي أن آتيك بكوب شاي؟ فإن رد بالإيجاب فأحضري له كوب الشاي ثم اعتذري عن عدم تمكنك من الجلوس معه بحجة أنك مشغولة بشيء ما.
2- انتهزي الوقت الذي يكون فيه بمزاج جيد واجلسي معه، وحاولي أن تظهري حبك واحترامك له، وحاولي أن تكوني أنت من يدير الحديث، وكوني ذكية في ذلك بحيث تجعليه يظهر أفضل ما عنده، فمثلا استحضري موقفا كان فيه أبيك شخصا مميزا أو قام بعمل مميز واذكريه أمامه بكل إعجاب (هل تذكر يا أبي كيف تمكنت من مساعدة جارنا فلان، أو تمكنت من إصلاح كذا بعد أن فشل الآخرون؟ حقا لقد كنت شهما وشجاعا والجميع أعجب بعملك وكنا جميعا فخورين بك)، وهكذا اجتهدي في تكرار مثل هذه المواقف فهذا سيشعره بالسعادة من الداخل، وسيزيد ثقته بنفسه وتقديره لذاته (وهذه هي الأمور التي افتقدها في الطفولة وكانت سببا في اكتساب شخصيته بعض الصفات السلبية) وقد تتفاجئين بمقدار سعادته، ومع التكرار قد تصبح جلساتك معه هي المفضلة عنده.
3- لا تأخذي تصرفات أبيك وكلامه الجارح بشكل شخصي أو أنه موجه ضدك حتى لو كان يخاطبك أنت بذلك، بل ذكري نفسك بأنه يستخدم نفس هذه الطريقة السيئة مع آخرين غيرك وهي على الأرجح طريقة تعكس وبشكل غير مباشر معاناته في الطفولة، وعدم توفر القدوة أو النموذج الصحيح للتعامل أمامه.
4- كوني أنت القدوة لأبيك وإخوتك في تصرفاتك وردود أفعالك على تعليقات أبيك وأقواله الجارحة، فعندما يقول لك كلاما جارحا قولي لنفسك: (إن أبي متضايق الآن وهو لا يقصد الإساءة إلي، وقد لجأ إلى الأسلوب لأنه لم يتعلم غيره، وإنه يتصرف وهو غير مدرك لما يسببه لي من ألم) ثم قولي لوالدك: (تبدو مرهقا يا والدي سأتركك لترتاح وبعدها سأحضر لأشاركك الجلسة ونشرب الشاي معا)، هنا سيحدث تغير في مشاعر أبيك السلبية التي تعتريه لأنها قوبلت بتصرف لطيف لم يعتد عليه، وأيضا لأنك غادرت المكان ولم يجد أمامه من يسقط عليه مشاعره السلبية، ومع تكرار هذه الطريقة سيتعلم والدك بأنه عندما يسيء الكلام معك فإن هذا لن يستفزك ولن يحصل على أي انفعال من جانبك، وأيضا ستغادرين المكان بأدب ولباقة فلا يكون لأحد حجة في لومك أو لوم أحد.
وبالطبع -يا ابنتي- إن هذا لن يكون سهلا عليك، لكن تذكري دائما بأنك تتعاملين مع أبيك الذي تعب ليوفر لك حياة ميسورة وعلمك تعليما جامعيا عاليا، وتذكري بأن صبرك وتأدبك معه هو طاعة لرب العالمين جل وعلا، وبرك به سيرد إليك مستقبلا ببر أبنائك لك وسيكون أجرك مضاعفا -بإذن الله تعالى-.
5- بالطبع -يا ابنتي- إن الأعراض عندك تدل على وجود حالة اكتئاب وعندما تبدأي فعلا بتطبيق ما سبق مع عدم أخذ تصرفات أبيك على أنها موجهة نحوك أنت شخصيا (حتى لو كان يعلق بشكل واضح على أسنانك أو قدمك أو شعرك) هنا ستتحسن نفسيتك بعض الشيء، وقد تقل المشاعر السلبية عندك وخاصة شعورك بالاضطهاد، لكن إن شعرت بأن الأمور لم تتحسن أو ساءات -لا قدر الله- فهنا أنصحك بمراجعة طبية نفسية لتقوم بتقييم حالتك عن قرب، وإعطاءك العلاج المناسب، وستشعرين بتحسن في نفسيتك وعلاقاتك مع من حولك.
أسأله عز وجل أن يوفقك الى ما يحب ويرضى دائما.