السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا -الحمد لله- عشت أغلب حياتي سعيدا لم أؤذ أحدا قط، وكنت في أفضل حال من الناحية المادية والمعنوية، ولكني كنت مقصرا في حق الله تعالى في عبادته.
في يوم وليلة والدي خسر تجارته، وأصبح مديونا، وخسرنا منزلنا وأشياء كثيرة، وطبعا من هنا بدأت المشكلة، أصبحوا يطالبون والدي ويهددونه كثيرا وأنا لم أعتد أبدا على هذا الشيء، وجميع مخاوفي بدأت هنا، خوفا على والدي، وعلى مستقبلي، وماذا سيحدث لنا؟ ولكن في نفس الوقت أصبحت أقرب من الله تعالى، وأبكي في صلاتي ودعائي؛ عسى الله أن يفك كربتنا ويريح قلبي، ولكن مع هذا ما زلت خائفا؛ لأنه لا يمكنني فعل أي شيء لمساعدته؛ بسبب المسار الذي دخلته، أحتاج إلى 5 سنوات أخرى بسبب نظام تعليم الطب السيئ حتى يمكنني أن أسترزق بعملي.
وما زال التغير الكبير في الحال هو ما يجعلني مكتئبا قليلا ولكن -الحمد لله- على كل حال، فماذا يمكنني أن أفعل حتى يخف هذا الخوف قليلا؟ خاصة أن الأشخاص الذين تعامل معهم والدي يبدو أنهم يمكنهم أذيته فعلا بسبب خطئه!
وأيضا الخطط التي كنت قد وضعتها قد ضربت بعرض الحائط مثل الخطوبة والستر، فلا أعرف ماذا أفعل فعلا!
وشكرا لكم.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أهلا بك -أخي الكريم- في موقعك إسلام ويب، وإنا نسأل الله الكريم أن يبارك فيك، وأن يحفظك، وأن يقدر لك الخير حيث كان، وأن يرضيك به.
نتفهم -أخي- ما حدث لك، وندرك تماما تلك المشاعر المختلطة التي تعجز عن الإبانة عنها أو المساعدة فيها، ولكن نحمد الله أن ييسر لك هذا الفهم، وييسر لك ولأهلك العودة إليه، ولعل في هذه الأقدار ما هو خير لكم وأنتم لا تشعرون.
أخي الكريم: الدنيا دار ابتلاء، والآخرة دار جزاء، الدنيا دار امتحان والآخرة دار الفوز لمن صبر وشكر، الدنيا فانية فهنيئا لمن خسرها وربح الآخرة، ويا خسارة من ربح دنياه وخسر آخرته؛ لذلك اعلم -أخي الكريم- أن الإنسان في حياته لا بد له من التطواف حول البلاء، وهو يختلف شدة وضعفا من شخص لآخر؛ فهناك من يكتب لنا أنه مبتلى بالكليتين، وأنه يذهب ثلاثة أيام كل أسبوع ليقف أمام صفوف طويلة من أجل أن يغسل كليته، بالطبع -أخي- هذا اليوم غير محتسب في حياته، يفعل هذا من أجل أن يخرج الأذى عن نفسه، وأنت طبيب وتعرف هذا المعنى جيدا، هذا المريض هو أحسن حالا من مريض السرطان، ومريض السرطان الذي يجد ثمن الدواء خير من المريض الذي لا يجد ثمن علاج علته.
الشاهد -أخي- كل هؤلاء أهل ابتلاء، ولعلك بينهم، ورغم ما أنت فيه من ضيق وهم؛ فأنت في عافية بالنسبة لهم، استحضارك لهذه المعاني هام في ترطيب قلبك واحتساب الأجر عند الله -عز وجل-.
بقي أمر آخر لا بد من استحضاره وهو معرفة الحكمة من الابتلاء، ونحن نجملها في عدة نقاط، وللابتلاء حكم عديدة، جاء ذكرها وفهمها من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة؛ ومنها:
1- الابتلاء كفارة للذنوب: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وولده، وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة).
2- للصابر على البلاء أجر عظيم ورفعة حاصلة: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، أو حط عنه بها خطيئة).
3- الابتلاء يبصرك بعيوبك المهلكة والتي قد تكون سببا في خسارة آخرتك، فإن النعم صارفة العبد عن عيوبه، يقول الفضيل بن عياض: (الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه).
4- الابتلاء يستخرج قدراتك ويعظمها ويصنعك صناعة أخرى: واعتبر لحال نبيك صلى الله عليه وسلم، فقد نشأ يتيما ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى ماتت أمه أيضا؛ والله سبحانه وتعالى يذكر النبي -صلى الله عليه وآله- بهذا فيقول: ﴿ ألم يجدك يتيما فآوى ﴾ [الضحى: 6]، فكأن الله تعالى أراد إعداد النبي -صلى الله عليه وسلم- على تحمل المسؤولية ومعاناة الشدائد من صغره.
5- الابتلاء يكشف لك حقيقة الدنيا وزيفها وأنها متاع الغرور، وأن الحياة الصحيحة الكاملة وراء هذه الدنيا، في حياة لا مرض فيها ولا تعب: ﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ﴾ [العنكبوت: 64]، أما هذه الدنيا، فنكد وتعب وهم: ﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبد ﴾ [البلد: 4].
6- الابتلاء يذكرك بنعم كنت غافلا عنها؛ فإذا عادت إليك بعد ذلك عرفت النعيم بحق وآمنت بصدق بقدرة الله وحكمته وفضله.
7- الابتلاء يرزقك الشوق إلى الله والشوق إلى الطاعة والشوق إلى الجنة، وعليه فما أنت فيه من ابتلاء هو في حقيقته نعيم وأنت لا تدري.
وأما مسألة خوفك من الغد فأمر طبيعي نفسي لما حدث معك، وخير وسيلة لتجاوزه هو إيمانك بالقضاء والقدر، هذا خير معين لك على عدم الخوف والقلق، وقد بين ذلك النبي -صلي الله عليه وسلم- بقوله: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكانت خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكانت خيرا له).
فالمؤمن عليه البذل وما أصابه بعد ذلك من خير أو شر يؤمن قطعا أن له فيه خيرا، فقد يرفع الله الضرر الأعلى بالضرر الأدنى، وقد يبتلي الله العبد ليرفع درجته، أو يغفر ذنبه، وما يدري أن هذا هو الخير له. والتسليم لله -عز وجل- والرضا بقضائه هو ما يريحه ويسعده ويطمئن قلبه.
ثانيا: الإيمان بالقدر لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، للأعرابي: اعقلها وتوكل، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتداوي، وفي صحيح مسلم أن سراقة بن مالك قال: (يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر)، وفي رواية: كل عامل ميسر لعمله.
قال النووي رحمه الله: وفي هذا الحديث النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له لا يقدر على غيره.
وقال ابن القيم: لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى، والأسباب لا تعطي النتائج إلا بإذن الله تعالى، والذي خلق الأسباب هو الذي خلق النتائج.
وعليه -أخي الكريم-: عليك البذل والأخذ بالأسباب مع التفاؤل أن الغد خير، وأن بعد العسر يسر، وأن الله حكيم يضع الشيء في موضعه، إيمانك بهذه الحقائق سيزيل عنك كل هم وغم ويريحك ويدفعك إلى العمل.
وأخيرا: لذ -أخي- بالدعاء لله -عز وجل-، واعلم أن الله سميع قريب مجيب الدعوات، ولعل الله يعوضك وأهلك خيرا بعد هذه المحنة إنه جواد كريم.
نسأل الله أن يوفقك لكل خير، والله المستعان.