إرشادات لفتاة في علاج مشكلتها النفسية لشعورها بقسوة والديها وشكوكهما

0 578

السؤال

بسم الله الرحمن الرحيم.

((وإذا مرضت فهو يشفين)) [الشعراء:80].
من منطلق هذه الآية الكريمة أتوجه بعرض مشكلتي، وأدعو ربي أن يعينني في عرضها بشكل واضح، حتى تتمكن من مساعدتي.‏

دكتورنا الفاضل!‏ يسر الله لك أمرك وحفظك حيثما كنت.‏

دكتورنا الفاضل! أعرض عليك مشكلتي لعلك تجد لي حلا، أو تساعدني في حلها، إن فعلت ذلك فلك الأجر الجزيل من رب العالمين، وإن لم تساعدني فلن أنسى معروفك في التخفيف من معاناتي بنصيحة تقدمها إلي، مع العلم أنني عجزت في الوصول إلي أي طبيب نفسي عبر الإيميل، وأتمنى أن تصل إليكم مشكلتي هذه المرة، لأنني بالفعل بحاجه ماسة ‏إلى مساعدتكم لي في الخروج من أزمتي النفسية التي تكاد تفقدني عقلي.‏

دكتور! أعتقد بأنني في حاجة ماسة للعلاج النفسي، قد توافقي الرأي حينما تستمع لشكواي.‏

أنا فتاة في العشرين من عمري، أدرس في الجامعة العربية المفتوحة، أدخلني أهلي فيها بدون أخذ موافقتي بقسم الحاسب الآلي؛ حتى لا أسافر لمصر لإكمال تعليمي؛ لأنهم يخافون علي؛ لأنه -كما يزعمون- له ‏مستقبل، أنا لا أنكر ذلك، لكن أنا درست (أدبي) فكيف أستطيع فهم هذا المجال الذي يعتمد على الإنجليزي الذي أكرهه، والرياضيات ‏التي هربت منها في الثانوية، لكن لحقتني بالجامعة؟! لم أعد أستطيع المذاكرة؛ لأن عقلي مشغول بمشكلاتي التي تكومت فأصبحت كالجبل على صدري، لا أعلم بالضبط كيف أبدأ؟ لكني سأحاول قدر استطاعتي أن أركز على المعلومات التي تساعدك في تشخيص حالتي.

دكتورنا الفاضل! منذ أيام هزأني والدي وأنا عائدة من الجامعة؛ لأنني متكحلة (وضعت كحلا في عيني)، مع العلم بأننا في الجامعة بنات مع ‏بعضنا لا نرى الرجال ولا يروننا، لكن هذا في نظره بأن من تفعل ذلك لم يربها أهلها وأنها (فاجرة)، وقال لي بأنه دعا علي؛ لأنني لا أسمع كلامه، وهددني بأخذ جوالي، وأن يخرجني من الجامعة، مع أنه هو من أدخلني إليها دون موافقتي، لأنني كنت أحلم بدراسة الطب النفسي، لكن ‏هذا في نظرهم علم مجانين، المهم: تابع التهديد بأنه سيشدد علي، وسيحرمني من الخروج من المنزل، وأشتغل مثل الخدامة في البيت.‏

دكتور! أنا مخطوبة لإنسان أشعر بأني أحبه برغم بساطته، وأنه مازال يكون نفسه، لكن أكره أن أتزوجه وأرتبط به فيكتشف شخصيتي ‏المحطمة بسبب نفسيتي التي لا أعلم ما علتها، فيندم على محبته لي وارتباطه بي، من فترة سابقة أيضا اشتريت ملابس جديدة بحكم أنني على وشك الزواج (بعد سنة من الآن)، ولما ذهبت لأريه ملابسي قال لي بالحرف ‏الواحد: (المهم أنك تستحمين حتى لا توسخي الملابس)، وأنا وربي أهتم بنظافتي ولبسي، لكن لا أعلم ما هدفه من قول ذلك لي وعلى مسمع ‏من الجميع: (إخواني وأخواتي وأمي)، وأنا -للأسف- أكبرهم أشعر بأنه يحتقرني أو بغرض أن يهزأ بي فحسب.‏

دكتور! أنا الآن وصلت إلى مرحلة أحس بأنني أكرهه هو وأمي، رغم كل ما فعلوه من أجلنا على حسب قولهم، لكن ماذا أفعل في عقلي؟ فهو يختزن جميع لحظات القسوة التي مارسها أهلي علي بالتحديد، على سبيل المثال لا الحصر:‏

‏* عندما اكتشف معي وجود دفتر شعر غزلي وأنا بالثانوية قام بتمزيقه وضربني أمام الجميع، وقال بأنني فاجرة سافلة، وكان يراقبني عندما أعود ‏من مدرستي على أقدامي.‏

‏* أذكر في طفولتي أنني غبت ذات يوم من مدرستي الابتدائية (أولى)؛ لأنني قمت متأخرة من النوم، فخفت أن يعاقبني الأستاذ فذهبت ‏لبيت عمتي حتى انتهاء موعد الدراسة، وعدت للبيت، لكن كان هناك أستاذ يدرسني صديق لأبي، فسأله عن غيابي فقال له بأنني ذهبت ‏للمدرسة، فقال الأستاذ بأنني لم أحضر، فرجع إلى البيت وضربني بخرطوم الغسالة (عاج)، ما زلت أذكر ذلك اليوم الكئيب.‏

‏* مرة أعجبتني قصة عاطفية في الجريدة، فأخذتها وكتبتها في دفتري، لكن بتغيير الشخصيات، وكتبت اسمي كشخصية من الشخصيات، تخيل ‏يا دكتور لما شاهدها والدي بالصدفة أخذني في غرفة أنا وهو وأخذ يسألني من يكون هذا الذي أحبه حتى يزوجني به (يستهزئ)! المهم: ‏هددني إذا ما قلت ما اسمه سيذبحني بالسكينة وسيشرب من دمي، تخيل مدى الرعب الذي عشته وأنا في (2) ثانوي.

* أيضا مرة رأى بجهازي الكمبيوتر صور بنات صغيرات، ووجوه حريم عادية كان مكتوبا عليها أشعار، لأني أحب الشعر، ضربني بالحذاء -الله ‏يعزك- أمام أمي وإخوتي، أبي لم يبخل علينا بالمال، لكن ما أسرع أن يرفع يده علينا ولسانه بالشتائم والتهديد، أمي إنسانة ليست على درجة من العلم لأنها تزوجت صغيرة، ولأن أمها ماتت وهم صغار، حتى أبي، أشعر بأن المثل القائل: (فاقد الشيء لا يعطيه) ينطبق عليهما معا، أي: على أمي وأبي، لأنهم أيضا كذلك قد حرموا من حنان الأم، لذلك ‏لا يستطيعون أن يمنحونا الحنان، أتصدق بأنني أكره أن أقبل أبي أو أمي؟! مرة من المرات قصرت في شغل المنزل، فأخذت أمي تدعو علي وعلى أخواتي جميعا بالموت، وأن نخرج في خشبة واحدة (هذه واحدة ‏من دعواتها القبيحة، أن نموت جميعا في يوم واحد!)، أتعلم ماذا كان عقابي؟! أن أقبل رأسها إجباريا.

بعض الأحيان أشعر بأنها كزوجة الأب من كراهة طبعها وعصبيتها، الله يهديها لتحسن معاملتها، المهم يا دكتور: ما أريده الآن هو أن أتخلص من كل ما علق بنفسيتي من شوائب، حتى أبدأ حياتي سعيدة، وأن أستطيع أن أكون أسرة خالية ‏من الأمراض النفسية، وأن أمنحهم الحنان بدون أن أمن عليهم بذلك كما تفعل أمي وأبي إذا أخطانا أو قصرنا في حقهم.‏

منذ مدة اتصلت على أحد المراكز النفسية في الرياض، وأخذت العنوان، لكن ما أن سمعتني أمي أقول بأنني سأتعالج نفسيا حتى اشتغلت ‏في الفلسفة التي تضر ولا تنفع: لو سمع خطيبك فلن يقترب من البيت مرة أخرى، يفسخ الخطوبة، الناس ستقول عنك: جننتي، وستظلين عانسا طول عمرك، يكفي دلع، بعد كل ما سردته عليك هل أستحق العلاج النفسي أم أنني أتدلع كما تقول أمي؟‏!

ما الحل من وجهة نظرك؟ نسيت أن أقول لك بأنني أستطيع التعبير بالكتابة أفضل بكثير من الكلام، وهذه واحدة من سلبياتي ومشكلاتي التي أتمنى أن أحلها قبل ‏موعد زواجي، فكيف أنقذ نفسي من الجحيم الذي أعيش فيه؟‏

دكتورنا الفاضل! أرجوك أعني، فليس لي بعد الله من معين غيرك، لأنك بحكم تخصصك تفهم حالتي أكثر من أهلي الذين أعيش معهم، أرجوك لا أستطيع الكتابة أكثر من ذلك لأن دموعي بدأت تهجم علي، كل ما أرجوه منك أن تبذل جهدك في مساعدتي؛ لأنني أعتمد عليك بعد الله، فليس لي غيرك بعد الله أشكوا إليه حالتي، ولن يفهمني غيرك ‏بحكم تخصصك الذي ما زلت أحلم بأن أتخصص فيه.‏

أسأل الله لك التوفيق في الدنيا والآخرة، وأن يحميك الله وأبناءك ومن يعز عليك من كل مكروه وسوء.

ابنتكم المعذبة/ هدى.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم.
الأخت الفاضلة/ هدى ‏ حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

لقد قرأت رسالتك بكل تمعن، وجزاك الله خيرا على دعواتك الصالحات، ونسأل الله لنا ولك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

أيتها الفاضلة! الذي أستطيع أن أتلمسه من رسالتك أنه توجد صعوبات كثيرة في التواصل والتحاور مع أسرتك.

منطق الأشياء في علم النفس يقول: إننا لابد أن نستمع للطرف الآخر، حتى نستطيع أن نكون فكرة علاجية تفيد الجميع، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنني أشك فيما ذكرته، ولكن الذي أستطيع أن أقوله لك -وبكل صدق وأمانة-: أنت لست بمريضة نفسيا، وأنت لست متدلعة كما ذكرت والدتك، أنت لديك مشكلة في الحوار والتواصل، كما أن شخصيتك تحمل ما يعرف بالجوانب الإسقاطية، والجوانب الإسقاطية تجعلنا كثيرا نسقط مشاكلنا وصعوباتنا على جهات أخرى دون أن نقصد ذلك.

أرجو أن تسامحيني فيما قلته، ولكن بالتأكيد هذه هي الحقيقة العلمية.

لا شك أنك على دراية كاملة بحقوق الوالدين، هذه من أصول تربيتنا الإسلامية الصادقة والصالحة.

من الكلمات العبقة والجميلة التي تستوقف الإنسان في القرآن الكريم أن سيدنا إبراهيم كان دائما يخاطب أباه بـ (يا أبت .. يا أبت)، وكلها مواقف عظيمة في المخاطبة، فمهما كان محتوى المخاطبة أو المقصود بها إلا أن البداية كانت بداية في الكثير من اللمسات الإنسانية الصادقة.

حقوق الوالدين معروفة مهما كان تصرف الوالد أو الوالدة، ولكن لا يعني أن يعيش الأبناء في جحيم وقسوة الوالدين، لا نستطيع أن نغير كثيرا في منهج الوالدين بصورة مباشرة، ولكن يمكن أن نغير منهج الوالدين بصورة غير مباشرة، وذلك بفتح قنوات حوارية جديدة.

فعلى سبيل المثال: حين قال لك والدك: (أنت فاجرة)، أنا أعتقد أن والدك لم يقصد هذه الكلمة بكل فظاعتها وغلظتها، فهي لغو أتت على لسانه دون أن يقدر معناها الحقيقي، وبالتأكيد هي جارحة ومؤلمة لك، وحتى أنا قد تألمت بها حتى أكون صادقا معك، ولكن حين قال الوالد ذلك بعد أن يهدأ يمكن أن تقولي له: يا والدي! أنت قلت لي: فاجرة، وأنا أعرف تماما أنك لم تقصد ذلك؛ لأني من صلبك ولا يمكن أن يأتي صلبك بفاجرة.

هذا باب من أبواب الحوار، ثم تقولين: إن كنت قصدت يا والدي أن تصرفي خطأ فأنا كنت لا أعتقد أنه خطأ، ولكن إن شاء الله سوف أصحح مساري، وتقبلي يديه، وهذا ليس إضعافا لك وليست إهانة، إنما هو فن من فنون الحوار والتواصل.

إذن: كل المشكلة تتمركز نحو كيفية التواصل مع هذا الوالد والحوار معه، وهذا يتطلب الكثير من الصبر، ويتطلب أيضا التفكير الإيجابي، بمعنى آخر: أرجو أن تقللي أو تحاولي أن تجبري نفسك على التقليل من مفاهيمك السلبية مطلقا عن الوالدين، أنت ربما تكونين محقة في كثير من مشاعرك؛ لأن تصرفات الآخرين قاسية حيالك، ولكن أيضا لابد أن يعرف الإنسان كيف يتحاور مع السلطة، حين أقول: السلطة أقصد أي سلطة، وسلطة الأبوين هي أكبر سلطة مفروضة على الأبناء، لابد لنا أن نقبلها، لابد لنا أن نحترمها، لابد لنا أن نتواصل معها، لابد لنا أن نعرف أن هذه علاقات مفروضة لا مفر منها، ولابد أن نعرف أن بر الوالدين وطاعة الوالدين هي من صميم عقيدتنا، أنا أعرف تماما أنك ملمة بذلك، ولكن ذكرته من قبيل التذكرة.

الشيء الثاني: أنت -الحمد لله- الآن طالبة جامعية، وبالرغم من أن الاختيار الذي تم فيما يخص الدراسة لم تكن هي رغبتك الأولى؛ إلا أن الإنسان يمكنه أن ينجز، وأنا شخصيا أؤمن إيمانا قاطعا بأن ليس هنالك تخصص جيد وتخصص سيئ، إنما هنالك إنجاز جيد وإنجاز سيئ، فعليك بالتصميم والعزيمة وبناء الرغبة والاجتهاد في التخصص الدراسي؛ لأن التسلح بسلاح العلم يعتبر من أكبر المغانم التي يمكن أن يحصل عليها الإنسان، الإنسان يمكنه أن يفقد كل شيء في حياته، إلا علمه ودينه لا يستطيع أحد أن ينزع أي منهما منه.

إذن لابد أن يكون هنالك محور تفكير مختلف لديك، يقوم على الإيجابية، ومحاولة الإنجاز والتحصيل الدراسي.

ثالثا: أنت -الحمد لله- مقدمة على الزواج، ما دامت الخطوبة قد تمت، وفيما ذكرتيه، أسأل الله أن يكون زوجا صالحا مستقبلا، هذا أيضا شيء إيجابي، وشيء طيب، فهذه الإيجابية يجب أن تمثل دافعية بالنسبة لك، وتجعلك أكثر قدرة للتواؤم والتكيف مع بيئتك الداخلية في المنزل.

هذا هو الذي أود أن أقوله لك وأنصح به، وأرجو أن تجعلي هذه الإرشادات نمطا مستمرا في حياتك، بمعنى ألا تستعجلي النتائج، فالتغيير يتطلب الصبر والوقت والجدية، والمبدأ الأساسي الذي أود أن أذكرك به هو أن تبدئي منهجا حواريا جديدا مع أسرتك ومع بيئتك الداخلية، وسوف تجدين إن شاء الله أن الأمور أصبحت تتغير بصورة إيجابية، وأن قنوات الاتصال قد تحسنت بينك وبين والديك.

وأرجو ألا تنسي أبدا أن حب الآباء لأبنائهم هو حب طبيعي وغريزي وجبلي، أي: ليس هنالك أب أو أم يضمر لأبنائه السوء، ربما يكون هنالك منهج قائم على القسوة من الناحية التربوية أو الشدة، ولكن هذا ناتج عن أخطاء في المفاهيم، علينا نحن الأبناء -حين نكون في موقع الأبناء– أن نساعد في تصحيح منهج الآباء التربوي؛ لأن ذلك سوف يعود علينا وعليهم وعلى الأسرة والمجتمع عامة بإيجابيات كثيرة.

أسأل الله لك الحفظ، وأن يوفقك ويسدد خطاك، وبالله التوفيق.

مواد ذات صلة

الاستشارات