السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في استشارة سابقة أجبتم بحديث السيدة عائشة، فجاء في الحديث الآخر الذي ترويه عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حصير، وكان يحجره من الليل فيصلى فيه، فجعل الناس يصلون بصلاته، ويبسطه بالنهار، فثابوا ذات ليلة فقال: يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل، وكان آل محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا عملوا عملا أثبتوه)، [رواه مسلم].
سؤالي: أنا -ولله الحمد- قادر على قيام الليل بأكثر من جزأين، خاصة وأننا في فصل الشتاء، وننام جيدا، علما أني لم أكن أصلي قيام الليل قبل، وتفضل الله علي بقيام الليل، فهل أقلل من المقدار حتى أستمر -مع العلم أن عزيمتي لم تفتر إلى الآن-، أم أزيد من المقدار؟ علما أني أستغل قيام الليل في الحفظ والمراجعة، ويسهل علي ذلك القيام -والحمد لله-.
شكرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عبد الله حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك -ولدنا الحبيب- في استشارات إسلام ويب.
أولا: نسأل الله سبحانه وتعالى لك مزيدا من الهداية والتوفيق والسداد، فنحن سعداء بما قرأناه في استشارتك من أخبار جميلة سارة فيما من الله به تعالى عليك من التوفيق، وشرح الصدر للأعمال الصالحة، وهذه نعمة جليلة ينبغي أن تشكرها بالثبات عليها والاستزادة من العمل الصالح.
أما الحديث الذي سألت عنه -أيها الحبيب-: فهو مظهر من مظاهر رأفة النبي -صلى الله عليه وسلم- ورحمته بهذه الأمة، وتوجيهه لهم بما يكفل لهم الاستمرار على المنافع والمصالح الدينية والدنيوية، وفي هذا الحديث يحذرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من آفتين قد يقع فيهما من يتقرب إلى الله تعالى بالعمل الصالح:
أما الآفة الأولى: فيحذرهم -عليه الصلاة والسلام- من تعاطي الأعمال التي قد تشق على الإنسان، وإما بكثرتها وإما بنوعها، فإن من تناول من الأعمال وشرع في الأعمال التي فيها مشقة عليه نهايته غالبا أن يترك ذلك العمل، وإن لم يترك كله فإنه سيترك بعضه، والله تعالى يحب العبد الدائم في الطاعة والعبادة، كما قال -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث: (إن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه).
وأما الآفة الثانية: فإنه يحذر -عليه الصلاة والسلام- من تعاطي الأعمال بكلفة وبغير انشراح القلب، فيكلف الإنسان نفسه من العمل المتنفل به، المتطوع به، ما فيه كلفة على نفسه؛ فيؤديه بغير انشراح قلب وبغير إقبال عليه، فيفوته خير عظيم بهذا السبب، فيدله -عليه الصلاة والسلام- إلى أن يتعاطى من العمل ما يتحقق فيه الأمران، الأمر الأول: انتفاء المشقة التي تدعوه إلى الترك، والثاني: انتفاء الكلفة ليحصل انشراح القلب والإقبال على العبادة بطيب نفس، فتكون عبادته واقعة على الوجه الأكمل، هذا مراد الحديث.
ويبين لنا -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث أن العمل الذي يتوفر فيه الأمران، وداوم عليه صاحبه، فإنه محبوب إلى الله تعالى، وهو أحب إلى الله من العمل الكثير الذي ينقطع، فالمقارنة هنا بين قليل يدوم وبين كثير ينقطع، وليس بين عمل دائم كثير، وعمل دائم قليل، فلو قدر للإنسان أنه يقدر على عمل كثير ويقدر على الاستمرار عليه، فهذا في منزلة أعلى، ولكن النبي -عليه الصلاة والسلام- يحذره من أن يشرع ويبدأ في العمل الكثير الذي لا يقدر على الاستمرار عليه، فهذا هو مقصود الحديث.
فينبغي للإنسان أن يأخذ برخصة الله سبحانه وتعالى، ويعمل بتوجيهات النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقد رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض الصحابة بأن يقللوا من عملهم في أيام شبابهم، كما جرى لعبد الله بن عمرو بن العاص، فأصر عبد الله بن عمرو بن العاص على العمل الكثير؛ لأنه كان شابا قويا، ولكنه بعد أن شاب وضعف ورأى أنه لا يقدر على المواصلة على العمل الذي شرعه في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي فيه كلفة ومشقة، تمنى لو أنه قبل توجيه النبي -صلى الله عليه وسلم- ورخصته التي رخص له في تخفيف العبادة ومجانبة التشديد.
فينبغي للإنسان أن يكون حكيما في سياسة نفسه وإدارتها، فيداوم على الأعمال التي يستطيع الاستمرار عليها حتى يبقى هذا الخير بلا انقطاع، فدوام القليل به تدوم الطاعة لله، والذكر، والمراقبة، والإخلاص، والإقبال على الله تعالى، هذه كلها عبادات يحبها الله عز وجل، بخلاف العمل الكثير الذي يؤدي إلى الإعراض عن هذه المعاني كلها، لهذا كان القليل الدائم أحب إلى الله تعالى من الكثير المنقطع.
نسأل الله تعالى لك التوفيق والسداد.