كيف نقي أنفسنا من التعصب للرأي الخطأ؟

0 36

السؤال

السلام عليكم

أحتاج أن أستشيركم في كيفية فهم موضوع التعصب، وكيفية تعليم نفسي ألا أقع فيه، لأنني بصراحة أصبحت أخاف أن أكون متعصبا بدون أن أعلم، والسبب هو ما أراه في المجتمع، فبعض الناس يبالغون في التعصب لآرائهم حول بعض المسائل والأشخاص والجهات، ويعتبرون القول بهذا الرأي هو الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، أو يعتقدون أن الولاء لهذا الشخص أو لهذه الجهة هو مقياس الحق والباطل، ويعادون الناس على هذا الأساس. لكنهم بعد فترة من الزمن تتغير قناعاتهم وآراؤهم مائة وثمانين درجة، مما يوقعهم في حرج مع أنفسهم وتجاه الناس.

كيف نقي أنفسنا من التعصب للرأي الخطأ؟

ولكم جزيل الشكر.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلا بك -أخي الكريم- في موقعك إسلام ويب، وإنا نسأل الله الكريم أن يبارك فيك وأن يحفظك، وأن يقدر لك الخير حيث كان وأن يرضيك به.

إن الإنصاف كما قيل عزيز، والتعصب للرأي مهلكة، وقد ضل في بحر التعصب خلائق كثر، ولو علم كل مسلم حده ما تجاوز قدره، ولا أوردها موارد المهالك، نسأل الله العافية.

مع أن الاختلاف في حقيقته مظهر من مظاهر التيسير والثراء العلمي، والتنوع الفكري، فليس عيبا يذم ولا خطأ يعاب، ما دام مبنيا على أصول علمية، واجتهادات سائغة؛ ذلك أن مادة الخلاف لا يمكن حسم مسائلها، وطبائع الناس، وبيئاتهم المتغايرة، وقدراتهم المتباينة، وعقولهم المختلفة؛ لا يمكن توحيدها، ولذلك فيمكن اعتبار الخلاف بهذا المفهوم الذي يراعي الطبيعة البشرية والضرورة العصرية، أنه أحد أسباب واقعية الإسلام وعالميته، قال تعالى: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}.

الاختلاف المشروع وفق الأصول المتبعة ليس بضار، وإنما يأتي الضرر عند انتقال الاختلاف من التنوع إلى التضاد، ومن التعايش إلى الإقصاء، فيدعي كل طرف أنه يحمل الحق المطلق، وغيره يحمل الخطأ المحض، وافتراض كون الصواب لا يتعدد! وربما يجعل من هذه الفرضية: مسلمة عقدية ليكون مخالفه بذلك إما: فاسقا أو مرتدا أو كافرا، لأنه في تصوره خالف الإسلام والحق، ولم يخالف فهمه أو تصوره، مما أدى إلى تفرق الأمة الواحدة إلى اتجاهات: تتعارض ولا تتوافق، وتتصادم ولا تتلاقى، فصاحب الغلو في القدح له ضوابط يسير وفق أصولها، والمتساهل المفرط له قواعد مدرسة يسير في ركابها.

أخي الكريم: إن هناك قواعد لمن أراد السلامة من التعصب، وهذه القواعد هي:

1- التبين والتثبت بمراد القائل قبل الحكم عليه، والانتباه إلى مقصود كلامه لا إلى ملفوظه، فكم من منطوق لم يقصد أو مقصود لم ينطق.

2- تقديم حسن الظن والاعتذار ما أمكن، فالأصل في المسلم السلامة، وافتراض حسن الظن في المتحدث يجنب المنزلقات الفكرية، والتي منها: الحكم بلازم القول! وعليه فإن أول القواعد التي ينبغي الانطلاق منها: إحسان الظن، فالمسلم طبيب يعالج مرض إخوانه، ينظر إلى مخالفه راجيا له السلامة مما وقع فيه من مخالفة، يحسن فيه الظن، ويحمل كلامه على أفضل المحامل وأجودها، وهذا يدفعه إلى الأخذ بيده لا إلى إسقاطه أو إهلاكه.

3- الحكم على القول لا يوجب الحكم على القائل، فليس معنى خطأ المخالف بعد التأكد منه ملازما للحكم عليه، بل هناك موانع يجب أن تكون منتفية، فالجهل أو الإكراه، أو الاضطرار أو غير ذلك مفض إلى عدم إسقاط الحكم على القائل.

4- الإنكار على المخالف لا يبيح ظلمه، ولا يستوجب هجره، لقد كان السلف يرون أن ظلم المخالف، بالنيل منه أو من عرضه يعد اجتراء على النار، يقول ابن دقيق العيد: "أعراض المسلمين حفرة من النار".

كما أن ظلم المخالف محرم، فإن لزوم هجره وترك ما أصاب فيه ليس منهجا معتدلا، لأن هجر المخالف ليس واجبا لمخالفته، بل تدور عليه الأحكام حسب المصالح والمفاسد، فقد يكون وصل المخالف واجبا، إذا علم صلاحه بذلك، أو كان في الوصل دفعا لمفسدة أكبر تحصل بهجره. وقد يكون الهجر واجبا: إذا نفعه الهجر أو علم صلاح أمره به، أو خيف هلاك بعض المسلمين ببدعته، فالهجر إذن وسيلة دعوية تدور حول المصلحة الشرعية.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإذا كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا، وإن كان المهجور لا يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي يتألف أقواما ويهجر آخرين".

5- كل يؤخذ من قوله ويرد عليه: إن من مقتضيات الانتماء الحق للدين: تقديم قول الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- على أي قول أو رأي مهما علت درجة قائله، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}، وهذا يعني أن معيار قبول الآراء أو الأفعال مرده إلى الكتاب والسنة، وليس إلى قول العالم، فما وافق فيه أخذ به، وما خالفه رد، مهما كانت درجة القائل أو منزلته.

يقول الإمام أبو حنيفة: " إذا صح الحديث فهو مذهبي"، وزاد الإمام الشافعي فقال: "إذا صح الحديث فخذوا به واضربوا بمذهبي عرض الحائط". وهذا يؤسس لمبدأ اتباع الدليل، مهما كان القائل، فالواجب اتباع الدليل لا الهوى، وغياب ذلك يؤدى إلى الغلو والتعصب، وهي آفة ابتلي بها البعض، وقد تألم لهذا الإمام الشوكاني فقال: "ها هنا تسكب العبرات، ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين، على غالب المسلمين، من الترامي بالكفر، لا لسنة ولا لقرآن، ولا لبيان من الله، ولا لبرهان؛ بل لما غلت مراجل العصبية في الدين، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين، لقنهم إلزامات بعضهم لبعض، بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب بقيعة، فيا لله وللمسلمين من هذه الفاقرة: التي هي من أعظم فواقر الدين، والرزية التي ما رزئ بمثلها سبيل المؤمنين".

"قد كان الوقوف مع الحق دون النظر إلى قائله، ومع الحجة والبرهان مذهب الرعيل الأول، فقد كانوا زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل طاروا إليه زرافات ووحدانا، وإذا دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أمر انتدبوا إليه، ولا يسألونه عما قال برهانا، ونصوصه أجل في صدورهم، وأعظم في نفوسهم، من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس، أو يعارضوها برأي أو قياس، ثم خلف من بعدهم خلوف فرقوا دينهم، وكانوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون، وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا، وكل إلى ربهم راجعون، جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتجرون، وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد وقالوا: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}.

6- القداسة للنص لا للفهم: الأقوال أو الأفهام للنصوص لا تحمل في ذاتها صفة القداسة، بل تعظم بمقدار ما وافقت فيه النص المعصوم، وإن عدم التفريق بين الأمرين: النص وفهمه من حيث القداسة؛ جعل بعض الأتباع ينظرون إلى كلام إمامهم أو شيخهم أو أعلام مدرستهم التي ينتمون إليها: على أنهم ملائكة معصومون، وإن لم يصرحوا بذلك تنظيرا، لكن عند التطبيق لا يعرفون خطأ لشيخهم أو مدرستهم، فأقوال شيوخهم دين لا ينبغي مخالفته، وهذا مظهر من مظاهر التعصب؛ لأنه قد يتبع الباطل ويدفع الحق دون أن يشعر "والمتعصب وإن كان بصره صحيحا فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلة منه وجهلا بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع؛ فإنه صار بها باب الحق مرتجا، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله ـ سبحانه ـ والهداية منه".

هذه بعض القواعد، ونسأل الله أن يجنبنا التعصب أو يجمع الأمة على كلمة الحق، والله الموفق.

مواد ذات صلة

الاستشارات