السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أواجه مشاكل مع والدتي التي عانت من اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب؛ مما أدى إلى مشاكل متكررة مع والدي، عندما كنت طفلة، كان والدي يهرب من المنزل لتجنب المشاكل، وكنت أنا الضحية لأعباء هذه الأزمات، حيث كانت والدتي تفرغ غضبها علي بالضرب والإهانة، ولم أجد منها أي عاطفة أو حنان.
بعد مرور سنوات أنجبت والدتي أخي الأصغر، وبدأت تظهر له بعض مظاهر الأمومة التي لم أرها منها أبدا؛ مما جعلها تفضله علي بشكل واضح.
أخي الأصغر ليس مهتما كثيرا بالتواصل معها، لكنه يبقى محبوبا من قبلها، وتعامله بحنان عندما يأتي لزيارتها.
أما أنا فعندما أزورها، تطالبني بالقيام بأعمال المنزل مثل التنظيف والطبخ، على الرغم من أنني أحاول دائما التواصل معها، وشراء الهدايا وتقديم الدعم.
حاولت بناء علاقة صداقة معها، لكنها تجعل علاقة الصداقة بيننا صعبة جدا؛ فعلاقتي معها علاقة سامة.
رغم كل محاولاتي، تصر والدتي على أن يتم كل شيء كما ترغب، حتى وإن كان يتعلق بحياتي الخاصة، مثلا، مرة أردنا الذهاب لتناول الطعام في مطعم، فقلت: إني لا أحب الطعام في ذلك المكان، فحزنت وبدأت بالبكاء، واتهمتني بالعقوق.
موقف حديث: قبل يومين، أرادت والدتي القيام بتحنيك الطفلة، بوضع التمر في فمها، بما أنه من السنة النبوية، لكن زوجي كان معارضا لهذا الأمر خوفا على صحة الطفلة، وأخبرني أنه لا يرغب في القيام بذلك، في الماضي، كانت والدتي قد فعلت أشياء لطفلي الأول دون علم زوجي، مما جعله يؤكد علي ضرورة استشارته قبل فعل أي شيء.
عندما سألتني والدتي عن التحنيك، أخبرتها بأن زوجي لم يكن راضيا عن الفكرة، فغضبت مني، فقلت لها: لماذا تريدين إجبار الجميع على قبول ما تريدينه أنت فقط؟ فحزنت وذهبت من المنزل وهي تبكي، وبعدها أرسلت لي رسالة تقول فيها: إنه لا يسمح لي بالزيارة إلى منزلها، لا أنا ولا ابنتي.
أشعر بالإرهاق بسبب طريقة تعاملها وطلبها المستمر للاعتذار، حتى عندما لا أكون مخطئة، فهل يجب علي في كل مرة أن أعتذر لها، وأتوسل إليها حتى عندما لا أكون مخطئة؟ وهل يغضب الله علي إذا لم أفعل ذلك؟ خاصة وأنها تحزن لأسباب بسيطة أو غير واضحة، رغم كل ما أفعله لكي أتقرب منها وأبرها، ورغم كل تقصيرها وإهاناتها، وتطلب مني أن أتوسل وأتضرع إليها لأرضيها، فهل أنا آثمة إذا غضبت ولم أعتذر؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ لانا حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أهلا بك -أختنا الفاضلة- في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله أن يبارك فيك، وأن يحفظك من كل سوء.
نتفهم حديثك -أختنا-، ونريد قبل أن نجيبك على ما تفضلت به أن نؤكد على عدة معان هامة:
1- محبة الوالدة لأولادها محبة فطرية، خلقها الله وجبلها على حبهم، تلك قاعدة فطرية موجودة منذ خلق الله آدم وحتى اليوم، وأنت أم وتدركين جيدا كيف مكانة أبنائك عندك.
2- الوالدة مريضة بمرض اكتئاب، وهذا له دور سلبي على تفكير الإنسان وحياته وتحمله، بل ونظرته للحياة، والطبيعي أن الإنسان المريض يحتاج من الاهتمام والرعاية والعناية ما لا يحتاجه الصحيح.
3- الأمومة لا تعني العصمة من الخطأ، بل تعني العصمة من تعمد إلحاق مكروه عن قصد بمولودها، أما الخطأ فوارد من الجميع، وأنت مع أولادك قد تخطئين، ولكن هذا يستحيل أن يكون تعمدا لإيذائهم، بل هو أسلوب لتقويمهم، ربما يكون صحيحا وربما يكون خطأ، وهذا مجال أخذ ورد، إنما الحقيقة التي لا تقبل الجدال هو أن محبتكم في قلبها راسخة رسوخ الجبال.
4- البر بالأمهات ليس معاوضة، بمعنى أن الشريعة لم تجعل من شروط البر أن يحسن الآباء إلى الأبناء، بل هو واجب وإن أساؤوا، واجب وإن أخطؤوا، واجب وإن أجبروك على أن تكفري بالله الذي خلقك، كذا أمرك الله عز وجل، أن تصاحبيها حتى لو دفعتك للكفر دون أن تسمعي لها في الكفر، قال الله: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا).
لو نظرت إلى القرآن والسنة لعلمت أن مكانة الأمومة في الشريعة لا يحل بأي صورة المساس بها تحت أي ظرف أو ضغط، قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}.
والآيات معبرة واضحة دالة على عظيم فضلهما، فقد قرن الله عز وجل برهما بأعظم قضية في الوجود: قضية التوحيد، ونهى عن الـ (أف) وهو لفظ يفيد التضجر مع الطاعة، وأمر بخفض جناح الذل لهما، وشرط أن يكون هذا الذل مقرونا بالرحمة!
بل جعل الإسلام برها من أحب الأعمال وأفضلها إلى الله، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي ﷺ أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: (الصلاة على وقتها)، قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين)، قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله). ونبه الإسلام أيضا على أن المسلم لا يستطيع مكافأة أحد والديه إلا أن يجده عبدا مملوكا فيشتريه من سيده ويعتقه، قال ﷺ: (لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه).
اعتبر الإسلام غضبهما وحزنهما، وقدم برهما على بعض الأعمال التعبدية مثل الجهاد في سبيل الله، والذي هو ذروة سنام الإسلام، فقد ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: أقبل رجل إلى النبي ﷺ فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، قال: (فهل لك من والديك أحد حي؟ قال: نعم بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟، قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك، فأحسن صحبتهما)، وفي رواية أخرى أنه خرج للجهاد وترك والديه يبكيان فأمره النبي بالعودة قائلا له: (ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما).
إذا كان هذا في حق الوالدين عامة، فإن حق الأم أعظم وأشد، فقد ورد أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك).
من هنا -أيتها الفاضلة- يعلم خطر ما سألت عنه، ذلك أن برها أحد أبواب الجنة المفتحة، كما قال النبي ﷺ: (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة).
أما عن مسألة إذلالك كما ذكرت في الاعتذار لها؛ فإنك مأجورة على ذلك، بل ومأمورة به، فقد قال الله: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}، فاعتذري لها واسترضيها، واحذري أن تنامي وهي عليك غاضبة، افعلي ذلك احتسابا والتماسا للأجر، وثقي أن الله سيعوضك خيرا على ذلك، وسترين بأم عينك برها في أولادك وفي ورودك على الله تعالى.
نسأل الله أن يحفظك وأن يرعاك، والله الموفق.