السؤال
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
جزاكم الله خيرا على معونتكم للمسلمين، أما بعد:
ما السبيل إلى العفو عن الناس حتى يعفو الله عني؟ أخشى أن يكون عدم عفوي عمن حولي هو سبب مشاكلي.
ادعوا لي أرجوكم.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
جزاكم الله خيرا على معونتكم للمسلمين، أما بعد:
ما السبيل إلى العفو عن الناس حتى يعفو الله عني؟ أخشى أن يكون عدم عفوي عمن حولي هو سبب مشاكلي.
ادعوا لي أرجوكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ مريم حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات الشبكة الإسلامية، فأهلا وسهلا ومرحبا بك، وكم يسعدنا تواصلك معنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأله -تبارك وتعالى- أن يثبتك على الحق، وأن يهديك صراطه المستقيم، وأن يجعلك من المسلمات العالمات العاملات الصادقات القانتات العفيفات اللواتي يعفون عن الناس ابتغاء مرضاة رب الأرض والسماوات.
بخصوص ما ورد برسالتك -أختي الكريمة-: فإن العفو -كما تعلمين- من أعظم الأخلاق، وهو عبادة -حقيقة- مهجورة قلما نجدها الآن بين المسلمين مع الأسف الشديد، رغم أنها صفة من صفات الله -سبحانه وتعالى- واسم من أسمائه الحسنى، فهو العفو القدير سبحانه وتعالى، يعفو بعد مقدرته على الأخذ بالذنب ويعفو عن العاصي فلا يعاقبه هذا من رحمته وفضله، فالعفو نعمة عظيمة وصفة رائعة، ولذلك بشر النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه بقوله: (وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا)، بل إن الله -تبارك وتعالى- لعظم شأن العفو أمر به نبيه -صلى الله عليه وسلم- قائلا: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، [الأعراف:199]، وبشرنا الله -تبارك وتعالى- بقوله أيضا: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، [الشورى:40]، ولذلك يوم القيامة ينادي مناد: أين الذين أجرهم على الله؟ فلا يقوم أحد، فينادي مرة أخرى: أين الذين أجرهم على الله؟ فلا يقوم أحد، فينادي مرة ثالثة قائلا: أين الذين أجرهم على الله؟ فيقف الناس فيقولون: يا ربنا، من الذي أجره عليك؟ فيقول: (من عفا عن خلقي من أجلي)، فيقوم ناس -وهم قليل- فينزلهم الله -تبارك وتعالى- في أعلى منازل في جناته.
ولذلك هذه العبادة العظيمة وهذه الصفة الرائعة صعبة ليست بالأمر الهين حقيقة إلا عند النفوس الكبيرة النفوس العظيمة؛ لأن هناك فرقا بين العفو والصبر، فالعفو يكون عند المقدرة، والعفو يكون مع المقدرة والانتقام، أما مع العزم والقهر فلا يكون عفوا.
إنسان ظلمني، تكلم في كلمة، اعتدى علي بأي صفة، وأنا قادر على أن أنال منه وأن آخذ حقي منه كاملا غير منقوص، بل وأن أنزل به أكثر من حقي، ولكني مع قدرتي عليه أقول: عفوت عنه ابتغاء مرضاة الله، ممكن أن أقول له عفوت عنك مباشرة وممكن أن يكون هذا الأمر بيني وبين نفسي، بمعنى: جاءتك امرأة أو صديقة أو زميلة أو قريبة وقالت لك: إن فلانة قالت عنك كذا وكذا، أنت تستطيعين أن تقولي عنها لأن عندك ملفا كاملا لتصرفات سيئة من قبلها، ولكنك لا تريدين أن تجاريها في الخطأ فقلت: عفا الله عني وعنها وغفر الله لي ولها.
أيضا إنسان أخذ منك شيئا سرقة من ورائك، ثم عرفت أن فلانا هذا الذي أخذه وأنت بمقدورك أن تقدمي ضده شكوى أمام الجهات الرسمية، وأن تأخذي حقك وزيادة، ولكن قلت: عفوت عنه ابتغاء مرضاة الله تعالى، أو جاءك بنفسه يلتمس المسامحة وقال لك سامحيني فأنا أخطأت، فقلت له: عفا الله عني وعنك وغفر الله لي ولك.
فالعفو عظيم، ولذلك الله -تبارك وتعالى جل وعلا- جعله عوضا، فمن عفا من أجل الله تعالى عمن أساء إليه من إخوانه فإن الله تبارك وتعالى سيعفو عنه يوم القيامة، فيقول له: عفوت عن خلقي من أجلي، وعزتي وجلالي لأعفون عنك كما عفوت عن خلقي من أجلي.
نحن قد نعفو عن شيء بسيط ولكن الله كرامة لهذه الصفة يعفو عن أشياء كثيرة وعظيمة لا يعلم مقدارها إلا الله سبحانه وتعالى جل وعلا ولذلك أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بوصايا كثيرة أخلاقية لأصحابه، ومنها أن أعفو عن من ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأحسن إلى من أساء إلي، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أن هناك صفات ثلاثا من أكرمه الله بها حاسبه الله حسابا يسير وأدخله الجنة بلا حساب ولا سابقة عذاب، ومن هؤلاء من عفا عمن ظلمه.
ولكن العفو -بارك الله فيك- يحتاج إلى تدريب، يحتاج إلى مران، كلما بلغني أن إنسانا أساء إلي أنا شخصيا لأني أعفو عن حقي أنا فقط لا أعفو عن حق غيري لأن هذا ليس من حقي، وأيضا أعفو عن حقي ابتغاء مرضاة الله تعالى، لأننا أحيانا من الممكن أن نعفو عن بعض المخطئين ليس لله وإنما لأن هذا ابن فلان أو ابن فلانة، أو لأن هذا مسئول كبير أو أن هذا من أقربائي أو أن هذا من أصدقائي، في حين لو فعل هذا الأمر شخص آخر ما قبلنا منه العفو ولا عفونا عنه، إذن هذا العفو ليس لله تعالى، وإنما لا بد أن يكون العفو ابتغاء مرضاة الله، أنا قادر على أن أنال وأنتقم ممن ظلمني واعتدى علي ولكني أعفو عنه ابتغاء مرضاة الله.
إنسان أخذ مني قرضا مثلا وأعطاني شيكا أستطيع أن أقاضيه به أمام القضاء ولكني علمت من حاله أنه عاجز عن الأداء فعفوت عنه وقلت: حتى إلى ميسرة (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة)، [البقرة:280]، فلم أرفع أمره إلى القضاء ولم أحاكمه ولم أعرضه للأذى، هذا هو العفو.
ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن رجلا كان فيمن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه، فقيل له: هل عملت من خير؟ قال: ما أعلم. قيل له: انظر. فقال: ما أعلم شيئا، غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا وأجازيهم، فأنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر، فأدخله الله الجنة).
ولذلك العفو نعمة عظيمة وهو خلق من أعظم الأخلاق، وهو خلق النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقف أمامه أهل مكة جميعا في عام الفتح وقال: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا؛ أخو كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، عفا الله عني وعنكم لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم. رغم أنهم فعلوا فيه ما لا يخفى عليك، حتى طردوه من بلده وأخرجوه منها وأهانوه وضربوه وظلموه وسبوه، إلا أنه عفا عنهم جميعا؛ لأن العفو من صفات الأخلاق الكبيرة والنفوس العظيمة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يعينك وأن يوفقك للتدرب على هذه الصفة، لأنها لا تأتي من فراغ وليست مجرد كلام، وإنما تحتاج إلى مواقف وأن تكبحي جماح نفسك وأن تكظمي غيظك ابتغاء مرضاة الله حتى تكوني من العافين عن الناس فيعفو الله تبارك وتعالى عنك يوم القيامة.
أسأل الله أن يجعلنا وإياك وسائر المسلمين من هؤلاء، وأن يعفو عنا بعفوه في الدنيا والآخرة، إنه جواد كريم.
والله ولي التوفيق.