السؤال
من تشعر بالوحدة ماذا تفعل؟ والدي ووالدتي بعيدان عني تماما، رغم أننا نعيش في نفس المنزل، فقد سببا لي أذى جسيما في نفسيتي وحياتي، أجبراني على طاعتهما في كل شيء، كأن حياتهم وعمرهم لا يكفيهم، فسرقوا مني حياتي، أجبروني على دراسة تخصص لا أطيقه، ووافقوا على قريب تقدم لخطبتي دون أن يكلفوا أنفسهم عناء استشارتي، مع علمهم أن ظروفه تحول دون إتمام الزواج، والآن وبعد مرور عشر سنوات على الخطوبة أبلغهم أنه غير رأيه وعدل عن الارتباط بي، وحتى هذه كنت فيها آخر من يعلم! لم أسألهم، فلا أستطيع أن أضايقهم.
لا أتحمل التواصل مع صديقاتي، فهن إما يتحدثن عن أولادهن وأزواجهن، أو يظهرن الإشفاق علي، عزة نفسي تحول دون أن أخبر أحدا بمعاناتي، فقط أغلق الباب على نفسي وأبكي؛ لكثرة ما مررت بمواقف شعرت فيها بالإهانة من أهلي، صرت لا أحس بأن لي حقا في أي شيء جميل في الحياة، بل حتى لا أتمنى أن يطول بي العمر.
أريد فعلا تغيير نفسيتي، ولكن لا أدري كيف؟ مع العلم بأني متميزة في عملي، ولي الكثير من المواهب، ومن يعرفني لن يدور في باله أبدا حجم الحزن الذي أعيشه.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ دمعة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات الشبكة الإسلامية، فأهلا وسهلا ومرحبا بك، وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأله تبارك وتعالى أن يفرج كربتك، وأن يقضي حاجتك، وأن يجعل لك من لدنه وليا ونصيرا، وأن يعوضك خيرا عما فقدت، وأن يمن عليك بزوج صالح طيب مبارك يخرجك من هذه الوحدة القاتلة ويدفع بك إلى العز والسعادة والأمن والأمان والاستقرار.
وبخصوص ما ورد برسالتك - أختي الكريمة الفاضلة – فإن بعض الآباء والأمهات - مع الأسف الشديد – ينظرون إلى تربية أبنائهم على أنها فقط مجرد توفير الحياة المادية من طعام وشراب ومسكن وملبس وعلاج، ولا يهتمون بالجانب النفسي ولا يلقون له بالا، وإذا ما جاء أحد ليعاتبهم قالوا: (نحن ما قصرنا في خدمة أبنائنا، عندهم ما يريدون وأكثر مما يريدون، نحن ماذا نفعل لهم أكثر من ذلك؟)، ويعدون هذه الأشياء المادية على أنها كلها إنجازات قدموها لأبنائهم وبناتهم، ناسين أو متناسين أن المادة مهما عظمت لن تستطيع أن توفر للإنسان أمنا وأمانا واستقرارا وسعادة.
مع الأسف الشديد - أختي الكريمة الفاضلة – هذا يوجد في كثير من بيوتات المسلمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون، انحصر فهمهم في الجوانب المادية فقط، وأما الجانب النفسي فلا وزن له ولا قيمة، ولذلك يترتب عليها أنك تشعرين بتلك الوحدة القاتلة، رغم أنك تعيشين معهما في نفس البيت.
وبعد ذلك - كما ذكرت – ليست القضية كذلك مجرد الإهمال أو النسيان العاطفي، وإنما حتى التدخل في الأمور التي لا ينبغي لهم أن يتدخلوا فيها بحال؛ لأن الله تبارك وتعالى خلق عباده ويعلم قدراتهم وإمكاناتهم، ألم يقل سبحانه وتعالى: (( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ))[الملك:14]؟ ربنا الرحمن الرحيم صاحب العظمة والجلال يقول: (( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ))[البقرة:286]، فكيف يجبر الإنسان على دراسة شيء لا يطيقه ولا يتحمله ولا يحبه ولا ينسجم معه؟!
إذا كان الله تبارك وتعالى يقول عن الإسلام – وهو دينه - : (( لا إكراه في الدين ))[البقرة:256]، فكيف بنا نجبر أبناءنا أو بناتنا أو من تحت أيدينا على دراسة أشياء، أو على قبول أشياء هم لا يرغبون فيها؟! إن هذه حقيقة جناية وجريمة كبرى في حق الأبناء، ويوم القيامة سنسأل بين يدي الله تعالى.
أقول: إن والديك قطعا بلا شك فهمهم قاصر في حقوق التربية وفي حق أبنائهم عليهم، ولذلك تدخلا هذا التدخل الصارخ الذي ترتب عليها المآسي التي تعيشينها، ولكن بما أننا لن نستطيع أن نغير والدينا؛ لأن هذا ليس بمقدورنا ولا في إمكاناتنا، لا نحن ولا غيرنا، فإننا لم نتخير آباءنا ولا أمهاتنا، ولذلك لا نستطيع أن نغيرهم، خاصة وأن الشرع الحكيم قد أحاط مقام الأبوة بهالة عظيمة من الإجلال والاحترام والتقدير، وذلك لما قدماه في الظروف الطبيعية لأبنائهم من تضحيات لا يمكن أن يقوم بها أحد سواهم، إلا أنهم في حالتك هذه قد قصروا، وأعتبر أن هذه نتيجة تربية خاطئة تلقياها في بيوتهما أيضا، فوالدتك أيضا عاشت هذا الجو، ووالدك عاش هذا الجو، واتفقا معا - لما بينهما من توافق في المواقف – على أن تكون تلك حياتهما، ولذلك أصبح هذا الأسلوب أسلوبا مؤكدا ومكثفا من قبل الوالد والوالدة معا، وقد يكون أحدهما قوي الشخصية استطاع أن يحتوي الطرف الآخر، وأن تدور الأسرة على سياسته وحده، والطرف الآخر يؤيد ويصفق ويشجع.
أقول: نحن رغم هذا كله لن نستطيع أن نغير من ذلك شيئا، فخطؤهم في هذه العزلة النفسية، وخطؤهم في إجبارك على الدارسة بتخصص لا تطيقينه، وخطؤهم أيضا في الارتباط، أو خطبتك لشخص أيضا لا تعلمين عنه شيئا، ثم بعد عشر سنوات تتحولين إلى إنسانة لا زوج لك ولا خاطب ولا غير ذلك، كل هذه أخطاء متكررة لا نملك حقيقة تغييرها.
وإنما ليس لنا أمامها من سبيل إلا الصبر، والصبر مفتاح الفرج، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)، هذا أولا.
وثانيا بارك الله فيك: أيضا الدعاء، فالدعاء سلاح فعال ومؤثر غير الله به وجه التاريخ عدة مرات، كم من دول أبادها الله بدعوة نبي من الأنبياء؟! وكم من حضارات أبيدت ودمرت بالكامل أيضا بدعوة بعض الصالحين؟! وكم من ملوك وحكام ظلمة أهلكهم الله تبارك وتعالى بدعوة عبد من عباده؟!
فقضيتك ليست أم القضايا، وليست قضية كبرى، وإنما هي قضية شخصية بسيطة جدا -بإذن الله تعالى- إن توجهت إلى الله بالدعاء بصدق وإخلاص، فأنا واثق من أن هذا الواقع سيتغير تغيرا كليا بإذن الله تعالى، إذا لم يتغير التغير الذي ينبغي أن يكون فلا أقل من أن يتغير تغيرا يجعل هناك بصيصا من الأمل في حياة سعيدة ومستقرة.
أتمنى أيضا باعتبار أنك معلمة أن تخرجي من هذا الواقع الكئيب، بدلا من أن تغلقي باب الغرفة على نفسك وتستسلمي للبكاء والحزن والبكاء على الأطلال والذي فات من عمرك، فلم لا تخرجين - بارك الله فيك – إلى بعض الجهات الخيرية التي تمارس أعمالا نسوية موسعة، تشاركين في بعض المشاريع؟ هذا أولا عمل نافع لك أجره بإذن الله تعالى.
ثانيا: سيبدد هذه الوحدة وتلك الوحدة التي تعيشينها بعد انتهائك من يومك الدراسي.
ثالثا: سيمنحك فرصة للتعرف على شخصيات قد يكون من بينهم من لها أخ أو ابن يريد أن يتزوج بامرأة صالحة مثلك.
رابعا: ستشعرين بأن لك رسالة أخرى غير رسالتك الصباحية، فستشعرين من خلالها بأن هذه الهموم قد قلت مساحتها، وهذه الوحدة قد بدأت تتقلص؛ لأنك تعملين صباحا، وقطعا ترجعين مكدودة متعبة مهدودة، ثم بعد ذلك تذهبين إلى هذا الدوام المسائي الذي تختارينه حسب ظروفك ورغبتك، فهذا سينعش نفسك قطعا، وبالتالي إذا ما رجعت منه ستكون هناك مساحة كبيرة من الوحدة قد تم القضاء عليها، وبذلك أيضا ستخف حدة هذه الأشياء، وبهذا الخروج إلى العمل قد تجدين أما صالحة أو زوجة صالحة ترغب في أن تزوجك بابنها، ولذلك أرى أن ذلك خير، فتوكلي على الله.
أسأل الله لك التوفيق والسداد والهداية والرشاد، وأن يعينك الله تبارك وتعالى على فعل ما يرضيه، وأن يمن عليك بزوج صالح يكون عونا لك على طاعته ورضاه، إنه جواد كريم، وأن يخرجك من تلك الوحدة - بإذن الله تعالى – عاجلا غير آجل.
هذا وبالله التوفيق.