السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد أخبرتكم سابقا بأني أعمل من الثانية حتى السادسة مساء، وعملي ممتاز ولله الحمد، ولكني منذ فترة أصبح تفكيري منحصرا بالنقود وكيف أجمع مزيدا منها، لدرجة أني لم أعد أفكر بدراستي ومستقبلي، وأحسب كيف سأجني أكثر، لدرجة أن أمي طلبت مني مبلغا صغيرا من المال من الراتب الذي أخذته فرفضت أن أعطيها.
وأصبح هذا الأمر يزعجني كثيرا، وشعرت بأنني أصبحت طماعة وجشعة، رغم أني لم أكن أفكر بالنقود قبل أن أعمل لأن الرزق بيد الله، ولكني تغيرت مع النقود نحو الأسوأ، ولا أريد أن تسيطر علي النقود ولا أريد أن يصبح هدفي في الحياة هو جمع النقود فقط، وأريد أن يكون عملي لله وأن أكسب منه رضا الله، فساعدوني في التخلص من هذا الأمر، خاصة أنني بدأت أشعر أن النقود تقسي القلب، ولا أريد أن يكون قلبي قاسيا.
فساعدوني وشكرا لكم.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ سماء حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإنه ليسرنا أن نرحب بك مرة أخرى في موقعك إسلام ويب، فأهلا وسهلا ومرحبا بك، وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأله تبارك وتعالى أن يثبتك على الحق، وأن يهديك صراطه المستقيم، وأن يملأ قلبك خشية ومحبة وإنابة واستقامة، وأن يجعل الدنيا في يدك ولا يجعلها في قلبك، وأن يجعلك من سعداء الدنيا والآخرة.
وبخصوص ما ورد برسالتك: فإن ما حدث معك تكلم عنه القرآن الكريم وتكلمت عنه سنة المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام، قال مولانا تبارك وتعالى في سورة العلق: (( كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى ))[العلق:6-7]، فعندما يصاب الإنسان بنوع من الوفرة ويكرمه الله بقدر من الغنى والمال فإنه يشعر بأن قلبه يتحول، بل قد يصاب بالكبر والغرور والعجب نتيجة أنه أصبح بمقدوره أن يفعل بأمواله أشياء كثيرة، فلا يشعر بحاجته إلى الناس ولا بتقديرهم ومراعاة مشاعرهم؛ لأنه أصبح شخصا آخر يحمل في صدره قلبا آخر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه رضي الله تعالى عنهم: (والله! ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يبين لأصحابه وللمسلمين جميعا أنه لا يخاف عليهم الفقر، وإنما كان يخاف عليهم كثرة الأموال وأن تفتح عليهم الدنيا بفتنها حتى يهلكوا في جمعها وتحصيلها.
وها أنت أصبحت تعانين بعض المعاناة من وجود المال في يدك، رغم أنك كنت في بداية أمرك لا تفكرين فيه نهائيا، وكنت تعلمين أن الأمور بيد الله تعالى وأن المال هذا شيء لا يستحق أن يفكر فيه الإنسان بهذه الجدية، أما وقد ابتليت بجمع المال الآن وأصبح المال يجري في يدك وأصبحت الرغبة عندك مركزة في جمع أكبر قدر ممكن، وستظلين تجمعين وتجمعين ولن تشبعي أصلا؛ لأن جمع المال سيصبح شهوة أعظم من شهوة الطعام والشراب، ولذلك قال الله تعالى: (( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ))[آل عمران:14].
فهذه شهوة عجيبة تصيب الإنسان حين يتعلق قلبه بالمال ويصبح غايته ومنتهاه، ومن أجله يوالي ويعادي ويحب ويبغض، ويظل عمره كله على جمعه ويحافظ عليه وعلى تنميته وتكثيره، ثم يأتيه ملك الموت فيترك ذلك كله وراءه ليستفيد منه من وراءه من الورثة، ليصبح جمعه عليه وهم الذين يتولون إنفاقه ويسأل عنه درهما درهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ..) ومنها: (وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، فالمال هو الشيء الوحيد الذي نسأل عنه يوم القيامة بسؤالين: من أين وإلى أين؟
والأعظم من ذلك أنك ستجمعين وتجمعين وتجمعين ثم قد يأتي من يأخذ هذه الأموال في الحياة أو بعد رحيلك عنها. قد تكونين في الحياة حريصة على أن لا نذهب الأموال إلا بترتيبك، ولكن قد تأتيك لحظة يتوفاك الله فتنتقل الأموال إلى غيرك يستمتعون بها وأنت تسألين عنها في قبرك وبين يدي الله تبارك وتعالى.
فهذه مسألة ينبغي أن ننتبه لها وأن نفطن لها، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر قائلا: (منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال)، فطالب المال لا يشبع أبدا، وأيضا يقول صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).
وأما العلاج والحل فإنه يكون بالإنفاق والبذل، بمعنى: أن تجعلي لك إذا كنت تتقاضين راتبا يوميا أن تخرجي منه شيئا تعطينه لأمك أو لبعض الفقراء والمساكين، حتى تتعودي كسر هذه الرغبة، ورغم أن طبيعة الإنسان تقتضي حب المال كما قال تعالى: (( وإنه لحب الخير لشديد ))[العاديات:8]، وقال أيضا: (( وتحبون المال حبا جما ))[الفجر:20]، ولكن هناك فرق بين أن يتعلق قلبي به تعلقا شديدا وبين أن يكون موجودا في يدي، فأنا أحب أن يكون عندي مال ولكني في النفس الوقت لا أجعله الغاية الكبرى، ويكون ذلك بالإنفاق والبذل وسخاء النفس وعدم الشح، كما قال تعالى: (( فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى ))[الليل:5-11].
ولا يلزم من ذلك أن تخرجي المال كله، وإنما المهم أن تخرجي قدرا منه حتى تشعري نفسك داخليا بأن قضية تعلقك بالمال قضية ليست أساسية، وأن هناك شيء أعظم من المال، وهو أننا ننفق المال فندخل به السعادة والسرور على قلوب غيرنا، خاصة الوالدة باعتبار أنها طلبت منك ورفضت أن تعطيها، والمهم كسر هذا الحاجز النفسي، وكسر هذا الصنم الذي تربع على عرش قلبك، وإشعاره بأنه هو ليس غاية وإنما هو وسيلة كما خلقه الله تعالى، فالمال وسيلة وليس غاية، وسيلة لكي نأكل به ونشرب ونتعالج ونتعلم ونتزوج وننفقه على غيرنا أيضا، إذن هو ليس غاية؛ لأن المال لو كان جمعه غاية في حد نفسه لعبد الناس المال من دون الله، وهناك أناس يعبدون المال أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش).
وعليك بالدعاء أن يعافيك الله من هذه الآفة، وأن تطلبي من أمك أن تدعو لك، حتى تتخلصي من هذه الآفة المزعجة وتصبحي طبيعية، وفي تلك الحالة: نعم المال الصالح في يد العبد الصالح، فما دام المال يأتي حلالا وتخرجينه في المصارف الشرعية فهو نعمة من نعم الله تعالى، وبهذا نعلم أن الذي ننفقه أعظم لنا فائدة من الذي ندخره؛ لأن الذي تنفقينه كصدقة أو هدية أو إكرام للناس هذا سيعود مردوه عليك في الدنيا والآخرة، أعظم ملايين المرات من المال نفسه.
نسأل الله تعالى أن يعافيك من هذا البلاء، وأن يصرف عنك هذا الداء، وأن يرزقك الكرم والبذل والسخاء، وأن يجعل المال في يدك، ولا يجعله في قلبك، إنه جواد كريم.
وبالله التوفيق.