تقديم الكتاب على السنة والسنة على الإجماع

0 421

السؤال

نعلم أن الإجماع من الأدلة المعتبرة في شريعتنا الغراء ولكن سمعت بعض الناس يقولون إن دلالة الإجماع أقوى من دلالة القرآن والسنة على الأحكام، فما مدى صحة هذا القول؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فتقديم الإجماع على الكتاب والسنة مذهب بعض علماء الأصول مستدلين بكون الإجماع غير قابل للنسخ بخلاف الكتاب والسنة فيدخلهما النسخ ...

ففى المستصفى للإمام الغزالي متحدثا عن ترتيب الأدلة حسب قوتها وأحقيتها في التقديم:

فنقول: يجب على المجتهد في كل مسألة أن يرد نظره إلى النفي الأصلي قبل ورود الشرع ثم يبحث عن الأدلة السمعية المغيرة فينظر أول شيء في الإجماع فإن وجد في المسألة إجماعا ترك النظر في الكتاب والسنة  فإنهما يقبلان النسخ، والإجماع لا يقبله، فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ، ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة وهما على رتبة واحدة لأن كل واحد يفيد العلم القاطع ولا يتصور التعارض في القطعيات السمعية إلا بأن يكون أحدهما ناسخا فما وجد فيه نص كتاب أو سنة متواترة أخذ به. انتهى.

وفى إرشاد الفحول لمحمد بن علي الشوكاني: الثاني: أنه يقدم ما كان دليل أصله الإجماع على ما كان دليل أصله النص لأن النص يقبل التخصيص، والتأويل والنسخ والإجماع لا يقبلها، قال إمام الحرمين: ويحتمل تقدم الثابت بالنص على الإجماع لأن الإجماع فرع النص لكونه المثبت له والفرع لا يكون أقوى من الأصل. وبهذا جزم صاحب المنهاج. انتهى.

وقد رد هذا القول الإمام ابن القيم وضعفه وأثبت أن نصوص الوحي الصحيحة مقدمة على الإجماع حيث قال في إعلام الموقعين: فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا عكس هذا السير، وقالوا: إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولا: هل فيها اختلاف أم لا ؟ فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا في سنة، بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع، وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به وحكم به. وهذا خلاف ما دل عليه حديث معاذ وكتاب عمر وأقوال الصحابة. والذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أولى فإنه مقدور مأمور، فإن علم المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهل عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم . وهذا إن لم يكن متعذرا فهو أصعب شيء وأشقه إلا فيما هو من لوازم الإسلام، فكيف يحيلنا الله ورسوله على ما لا وصول لنا إليه ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللذين هدانا بهما، ويسرهما لنا، وجعل لنا إلى معرفتهما طريقا سهلة التناول من قرب؟! ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم، وليس عدم العلم بالنزاع علما بعدمه، فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله؟ ثم كيف يسوغ له ترك الحق المعلوم إلى أمر لا علم له به وغايته أن يكون موهوما، وأحسن أحواله أن يكون مشكوكا فيه شكا متساويا أو راجحا؟

ثم كيف يستقيم هذا على رأي من يقول: انقراض عصر المجمعين شرط في صحة الإجماع ؟ فما لم ينقرض عصرهم فلمن نشأ في زمنهم أن يخالفهم، فصاحب هذا السلوك لا يمكنه أن يحتج بالإجماع حتى يعلم أن العصر انقرض ولم ينشأ فيه مخالف لأهله ؟ وهل أحال الله الأمة في الاهتداء بكتابه وسنة رسوله على ما لا سبيل لهم إليه ولا اطلاع لأفرادهم عليه ؟ وترك إحالتهم على ما هو بين أظهرهم حجة عليهم باقية إلى آخر الدهر متمكنون من الاهتداء به ومعرفة الحق منه، وهذا من أمحل المحال، وحين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتج عليه بالقرآن والسنة قال: هذا خلاف الإجماع. وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام، وعابوا من كل ناحية على من ارتكبه، وكذبوا من ادعاه، فقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا ، أو لم يبلغنا.

 وقال في رواية المروذي: كيف يجوز للرجل أن يقول: أجمعوا ؟ إذا سمعتهم يقولون: أجمعوا فاتهمهم، لو قال: إني لم أعلم مخالفا كان.

 وقال في رواية أبي طالب: هذا كذب، ما علمه أن الناس مجمعون؟ ولكن يقول: ما أعلم فيه اختلافا فهو أحسن من قوله إجماع الناس.

 وقال في رواية أبي الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع، لعل الناس اختلفوا.

ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة والسنة على الإجماع وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة، قال الشافعي: الحجة كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الأئمة، وقال في كتاب اختلافه مع مالك: والعلم طبقات، الأولى: الكتاب والسنة الثابتة، ثم الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، الثالثة: أن يقول الصحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة، الرابعة: اختلاف الصحابة، والخامسة: القياس، فقدم النظر في الكتاب والسنة على الإجماع، ثم أخبر أنه إنما يصار إلى الإجماع فيما لم يعلم فيه كتابا ولا سنة، وهذا هو الحق.

 وقال أبو حاتم الرازي: العلم عندنا ما كان عن الله تعالى من كتاب ناطق ناسخ غير منسوخ، وما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا معارض له، وما جاء عن الألباء من الصحابة ما اتفقوا عليه، فإذا اختلفوا لم يخرج من اختلافهم، فإذا خفي ذلك ولم يفهم فعن التابعين، فإذا لم يوجد عن التابعين فعن أئمة الهدي من أتباعهم. انتهى.

وللمزيد راجع الفتوى رقم: 28730.

 والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة