الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالكذب خلق مذموم ولا يجوز أن يكون وسيلة للدعوة إلى الله تعالى، وقد ورد ذم الكذب في نصوص كثيرة من الوحي، قال الله تعالى: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب {غافر:28}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الصدق بر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإن الكذب فجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب كذابا. متفق عليه واللفظ لمسلم.
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان الرجل يحدث عند النبي صلى الله عليه وسلم بالكذبة فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة. رواه الترمذي وحسنه، وأحمد وصححه الألباني...
وأولى الناس بتحري الصدق واجتناب الكذب هم الدعاة إلى الله الذين هم في محل القدوة.
وفي خصوص هذه الشبهات التي يتذرع بها البعض فنرد عليها على النحو التالي:
فأما قوله تعالى: فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين {الأنعام:76}، وما بعده..: فهذا على وجه التنزل مع الخصم أي: هذا ربي، فهلم ننظر، هل يستحق الربوبية؟ وهل يقوم لنا دليل على ذلك؟ فإنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه، بغير حجة ولا برهان. تفسير السعدي.
وقال ابن كثير في تفسيره: اختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة، فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلا بقوله (لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين)... والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرا لقومه مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام.
فليس هذا من باب الكذب أصلا، وعلى فرض ذلك جدلا فهو من باب المعاريض، والدليل الواضح على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذا من كذبات إبراهيم عليه السلام، فقد قال صلى الله عليه وسلم: لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله: قوله إني سقيم، وقوله بل فعله كبيرهم هذا، وواحدة في شأن سارة.. الحديث، وذكر قصة إبراهيم مع الجبار. رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
قال ابن حجر في فتح الباري: قاله في حال الطفولية فلم يعدها، لأن حال الطفولية ليست بحال تكليف وهذه طريقة ابن إسحاق، وقيل: إنما قال ذلك بعد البلوغ لكنه قاله على طريق الاستفهام الذي يقصد به التوبيخ، وقيل: قاله على طريق الاحتجاج على قومه تنبيها على أن الذي يتغير لا يصلح للربوبية وهذا قول الأكثر إنه قال توبيخا لقومه أو تهكما بهم وهو المعتمد، ولهذا لم يعد ذلك في الكذبات، وأما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة فلكونه قال قولا يعتقده السامع كذبا، لكنه إذا حقق لم يكن كذبا لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين فليس بكذب محض. انتهى.
وكذلك كلام الإمام أبي حنيفة وأمثاله إنما يحمل على الاستفهام الذي يقصد به التوبيخ، أو على طريق الاحتجاج على مخالفه وليس ذلك من الكذب في شيء...
والمقصود أن الكذب كله حرام إلا ما استثناه الشرع، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس. رواه الترمذي وحسنه.
وعن أم كلثوم بنت عقبة قالت: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا أعده كاذبا: الرجل يصلح بين الناس يقول القول ولا يريد به إلا الإصلاح، والرجل يقول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها. رواه أبو داود وصححهما الألباني.
ومن الكذب في الحرب قصة قتل كعب بن الأشرف الواردة في السؤال.. وقد سبقت فتوى عن اتخاذ الكذب وسيلة للدعوة إلى الله وهي برقم: 79593.
وكما سبقت بعض الفتاوى عن معنى الكذب وحكمه وأقسامه وأحوال المباح منه وضابط ما يباح منه أو يجب وجلب مصلحة أو دفع مفسدة به انظر منها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 26391، 63123، 35822، 52199، 48814، 75174.
والله أعلم.