السؤال
1- علماءنا الأفاضل, سلام من الله عليكم ورحمته وبركاته, لقد كنت أقرأ كتاب ( طبقات المدلسين ) للحافظ ابن حجر العسقلاني, وقد ذكر من بين المدلسين الحافظ الدارقطني ص:16, وذكر الإمام البخاري والإمام مالك بن أنس في نفس الصفحة, والإمام مسلم في ص:17, وسفيان بن عيينة ص:22, فما هو تفسيركم لذلك؟! كما أني لم أجد شرح شاف ومبسط لمعنى " المدلس " ؟!
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالمدلس: هو من يحدث عمن سمع منه ما لم يسمع منه بصيغة توهم أنه سمعه منه، مثل قوله: عن فلان، أو قال فلان.
قال الإمام ابن حجر: والقسم الثاني: وهو الخفي المدلس -بفتح اللام- سمي بذلك لكون الراوي لم يسم من حدثه، وأوهم سماعه للحديث ممن لم يحدثه به… وحكم من ثبت عنه التدليس إذا كان عدلا ألا يقبل منه إلا ما صرح فيه بالتحديث على الأصح. انظر نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر لابن حجر صـ85 وللتدليس أقسام عدة تندرج تحت قسمين رئيسين:
1- تدليس الإسناد 2-تدليس الشيوخ. أما تدليس الإسناد فهو: أن يروي عمن لقيه أو عاصره ما لم يسمع منه،
موهما أنه سمعه منه ولا يقول في ذلك: ( حدثنا ولا أخبرنا) وما أشبهها، بل يقول: ( قال فلان) أو ( عن فلان) ثم قد يكون بينهما واحد، وقد يكون أكثر.
مثاله: الحديث الذي رواه أبو عوانة الوضاح عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فلان في النار ينادي: يا حنان يا منان " فالأعمش مدلس. وقد قال أبو عوانة: قلت للأعمش: سمعت هذا من إبراهيم؟ فقال: لا، حدثني به حكيم بن جبير عنه، فقد دلس الأعمش الحديث عن إبراهيم، فلما استفسر بين الواسطة بينه وبينه.
وتدليس الشيوخ هو: أن يصف شيخه بأوصاف لا يعرف بها، ليوهم أنه آخر، فيكثر بذلك شيوخه. وعرفه البعض بأن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه فيسمي الشيخ أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كيلا يعرف. يضاف إلى ما ذكرنا قسم ثالث وهو تدليس التسوية، وقد جعله ابن الصلاح داخلا ضمن تدليس الشيوخ، وجعله آخرون نوعا من أنواع تدليس الإسناد، وقالوا هو شر أنواع التدليس، وتعريفه: هو أن يروي المدلس حديثا عن ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر، فيسقط الضعيف، ويجعل بين الثقتين عبارة موهمة للاتصال، فيستوي الإسناد كله ثقات لمن لم يخبر هذا الشأن. وقد سماه القدماء تجويدا. وقد مثل له البعض بقولهم: ما كان يفعله الإمام مالك عن ثور بن زيد عن ابن عباس مسقطا ما بينهما وهو عكرمة لأنه عنده ليس بحجة، وثور وابن عباس لم يتلاقيا أصلا. تدريب الراوي ( 1/256) ولكن هذا ليس بصحيح كما قال ابن القطان، فإن الإمام مالك لم يقع في التدليس أصلا فقال: ( التحقيق أن يقال: متى قيل تدليس التسوية، فلا بد أن يكون كل من الثقات الذين حذفت بينهم الوسائط في ذلك الإسناد، قد اجتمع الشخص منهم بشيخ شيخه في ذلك الحديث، وإن قيل: تسوية بدون لفظ التدليس لم يحتج إلى اجتماع أحد منهم عن فوقه، كما فعل مالك، فإنه لم يقع في التدليس أصلا، ووقع في هذا -أي التسوية-فإنه يروي عن: ثور عن ابن عباس، وثور لم يلقه، وإنما روى عن عكرمة عنه، فأسقط عكرمة، لأنه غير حجة عنده، وعلى هذا يفارق المنقطع بأن شروط الساقط أن يكون ضعيفا، فهو منقطع خاص) تدريب الراوي ( 1/259).
وخلاصة ما تقدم أن هناك فرقا بين تدليس التسوية، وبين التسوية، وأن إسقاط مالك لعكرمة هنا ليس تدليسا ولا يضر، لأن شيخ مالك وهو ثور لم يلق ابن عباس، فالانقطاع ظاهر بين ثور وابن عباس ، وإنما أسقط مالك عكرمة لأنه غير حجة عنده، أما لو كان شيخ مالك وهو ثور لقي ابن عباس فيكون تدليسا.
أما الدار قطني فقد وصفه ابن طاهر بالتدليس قائلا: ( كان له مذهب خفي في التدليس يقول: قرىء على أبي القاسم البغوي حدثكم فلان) يريد محمد بن طاهر أن تلك العبارة وهم أنه سمع منه. لكن الصحيح أن لا يوصف بالتدليس لمثل ذلك.
وأما البخاري، فقد وصفه ابن منده بالتدليس لأنه كان يقول: "قال فلان، وقال لنا فلان" لكن لم يوافق على هذا الرأي فكان شاذا. كما وصف الإمام مسلم بذلك أيضا. وقد رد العلماء ذلك وقالوا: هذه الروايات التي لم يصرح فيها أصحابها بالسماع منزلة منزلة السماع، وذلك لمجيئها من طريق آخر مصرح فيه بالسماع، غير أنهما يؤثران الطريق التي لم يصرح بالسماع لكون الأولى جاءت على شرط صاحب الكتاب دون الثانية، قال ابن الصلاح: ( كل هذا محمول على ثبات السماع عندهم من جهة أخرى) كما
أنه يشفع للشيخين ( البخاري ومسلم) ما جاء في المستخرجات على صحيحيهما من الطرق الكثيرة، التي صرح فيها بالتحديث والسماع. كما يشفع لمسلم خاصة كثرة طرق الحديث الواحد في صحيحه، فهو يأتي بالمتصلة أولا وما صرح فيها بلفظ السماع، ثم يعقبها بما ليس فيه تصريح بالسماع، وهو بهذا إذا احتج إنما يحتج بالمتصلة منها لا بغيرها.
وأما سفيان بن عيينة: فقد قال عنه ابن حجر: ( ثقة حافظ فقيه إمام حجة، إلا أنه تغير حفظه بآخره، وكان ربما دلس لكن عن الثقات) وتدليسه هذا نادر، ولا يضر، لأنه لا يدلس إلا عن الثقات. وإذا وقف أحال عن ابن جريح ومعمر وأمثالهما. قال ابن حبان ( هذا شيء ليس في الدنيا إلا لسفيان بن عيينة، فإنه كان يدلس، ولا يدلس إلا عن ثقة متقن. ولا يكاد يوجد له خبر دلس فيه، إلا وقد بين سماعه عن ثقة مثل ثقته). انظر تقريب التهذيب لابن حجر صـ591، وأسباب رد الحديث للدكتور محمد محمود بكار صـ109 وإذا أردت التوسع في ذلك فيمكنك الرجوع إلى تدريب الراوي للسيوطي، وعلوم الحديث لابن الصلاح إلخ. والله أعلم.
وإليك أحوال المدلسين باختصار: 1- منهم من تسامح الأئمة في قبوله لكونه ثقة، ولكون تدليسه نادرا 2- من احتمله الأئمة لكونه لا يدلس إلا عن ثقة مثل سفيان بن عيينة 3- أئمة ثقات، لكن كثر تدليسهم عن الضعفاء والمجهولين مثل: بقية بن الوليد. فهذا لا يحتج به إلا إذا صرح بأنه سمع الحديث من الراوي.
ضعفاء لا يحتج بهم ولو صرحوا بالسماع ممن يروون عنه لأنه ازداد ضعفهم بالتدليس.
وذكر ابن حجر مرتبة خامسة في طبقات المدلسين ، وهي: من ضعف بأمر آخر سوى التدليس، وانضم إليه ضعف آخر كابن لهيعة.
والله أعلم.