الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقبل أن نناقش ما أتيت به من كلام، ندعوك أولا إلى طرح العناد والمكابرة وإلى التسليم للحق بالدخول في دين الله؛ لتنجو بنفسك إن كنت حريصا عليها من سخط الله -عز وجل-، ونهمس في أذنك بما كتب به أصدق من نطق، وهو نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم النصارى في زمنه: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم من تبعك، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. انتهى.
ثم اعلم أنا لم نرد عليك إلا رغبة في هدايتك، وهذا الذي ذكرته كلام ظاهر الفساد عند كل من له مسكة من عقل، ولولا أن يزيدك الشيطان طغيانا وعنادا بأن تقول كتبت إليهم فعجزوا عن الجواب، لما رفعنا بكلامك رأسا.
واعلم -هداك الله- أن النصارى ليس لديهم إسناد صحيح متصل إلى أصحاب عيسى -عليه السلام-، فضلا عن عيسى -عليه السلام- نفسه، بل أحسن التقديرات أن هذه الأناجيل كتبت بعد رفع عيسى -عليه السلام- بنصف قرن، ووقع فيها من السهو والغلط غير المقصود، فضلا عن ما تعمده كتبتها من التحريف، ما اعترف به كبار قساوسة النصارى وباحثيهم ولم يسعهم إنكاره.
وأما اختلاف نسخ الأناجيل واضطرابها وتناقضها فيما بينها، فأمر لا تمكن المجادلة فيه، وقد تتبع العلامة رحمة الله الهندي في كتابه القيم (إظهار الحق) هذه الاختلافات والتحريفات فأجاد وأفاد. وراجع لمعرفة شيء من ذلك الفتوى: 2105.
وإن كنت من أهل الإنصاف وطلب الحق، فراجع الكتاب المذكور، فلن يبقى عندك شك في أنك تتشبث بهباء، وتخبط خبط عشواء، وحسبنا أن نسوق إليك هنا بعض النصوص من الكتاب المقدس عندكم وهي دالة بوضوح على وقوع التحريف في هذه الكتب من نفس الكلام الذي تنسبونه إلى الرب: كيف تدعون أنكم حكماء ولديكم شريعة الرب بينما حولها قلم الكتبة المخادع إلى أكذوبة؟ إرمياء 8: 8. ( كما في الرسائل كلها أيضا، متكلما فيها عن هذه الأمور، التي فيها أشياء عسرة الفهم، يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضا، لهلاك أنفسهم. بطرس الثانية 3: 16.
ولكن كان أيضا في الشعب أنبياء كذبة، كما سيكون فيكم أيضا معلمون كذبة، الذين يدسون بدع هلاك، وإذ هم ينكرون الرب الذي اشتراهم، يجلبون على أنفسهم هلاكا سريعا. بطرس الثانية 2: 1.
فهذه النصوص وغيرها كثير جدا لم نذكره إرادة الاختصار دالة على أن الرب بزعمكم قال ما حاصله إن هذه الكتب وقع ويقع فيها التحريف بسبب الكذابين. فإن كانت هذه النصوص حقا، فيلزمكم إثبات ما أثبتته من وقوع التحريف في كتبكم، وهو ما قرره القرآن، وإن كانت هذه النصوص كذبا وباطلا، فهي دليل واضح على صدق ما جاء به القرآن من أن كتبكم قد وقع فيها التحريف وزيد فيها ونقص منها، وعلى كل؛ فإنكار تحريف التوراة والإنجيل سفسطة واضحة ومغالطة مكشوفة.
وأما زعمك أن الإنجيل لم يحرف، لأن الله قال "كل شيء يزول وكلامي لا يزول" فإن كان هذا من كلام الله حقا، فهو حق، فإن كلمات الله -عز وجل- لا تفنى ولا تنفد. قال الله -عز وجل-: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا {الكهف:109}.
ولا يلزم من هذا أن يحفظ كل ما تكلم به الله، فإن الله -عز وجل- امتحن الأحبار والرهبان بحفظ التوراة والإنجيل، وبدلوا وغيروا، وتكفل -عز وجل- بحفظ القرآن، ولم يكل حفظه إلى أحد، فلم يبدل منه حرف ولله الحمد: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون {الحجر:9}.
وأما زعمك بأن النصارى لا مصلحة لهم في تحريف الإنجيل؛ فكلام ساقط لا وجه له، فإن الإنجيل الذي أنزل على عيسى -عليه السلام- ليس فيه إلا توحيد الرب وإفراده بالعبادة، ولما انتشرت في النصارى عقيدة التثليث وافتروا فريتهم الشنعاء، وزعموا أن المسيح ابن الله، لم يكن لهم بد من تحريف هذه النصوص الدالة على خلاف معتقدهم الباطل، ولما كانت البشارة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- لائحة واضحة في نصوص جمة يعرفها كل من طالع الإنجيل، كان لا بد من تحريفها لفظا أو معنى، زيادة في التلبيس على عوام النصارى، ولئلا يحتج عليهم بما فيها، فلا مصلحة لأحد في تحريف الإنجيل إلا لأحبار السوء الذين اتخذهم النصارى أربابا من دون الله.
وأما زعمك أنهم لم يحرفوه لكون من حرفه توعد بالعذاب الأليم؛ فهو كاستدلال من يقول إن فرعون آمن لكون موسى توعده بالعذاب الأليم، بل نقول توعدوا بالعذاب، فخالفوا، فسيصلون سعيرا، فحذاري أن تكون منهم.
وأما زعمك بأن المسلمين هم الذين ادعوا تحريف الإنجيل، فإذا قال المسلمون كلمة الحق وأخبروا بما هو واقع في نفس الأمر، فماذا عليهم من اللوم في ذلك؟ بل هذا عين ما نفتخر به فقد بعث نبينا -صلى الله عليه وسلم- ناسخا لما قبله من الرسالات، وكتابه القرآن مهيمن على الكتب التي قبله، فيقر ما فيها من الحق ويمحق ما فيها من الباطل.
وأما زعمك بأنهم ادعوا ذلك فرارا من خبر المسيح بالأنبياء الكذبة الذين يكونون بعده، وكأنك تعرض بنبينا -صلى الله عليه وسلم-، فكذب صراح وإفك بواح، فأدلة صدق نبينا -صلى الله عليه وسلم- في متناول كل أحد، وهي كالماء والهواء، فهذه سيرته وأخلاقه، وإخباره بالمغيبات، وتأييد الله له، وإظهاره على عدوه، والقرآن المعجز الذي تحدى به الثقلين، وشريعته التامة الكاملة التي لا تنظر إليها من زاوية من زواياها إلا وأيقنت أنها شريعة أحكم الحاكمين تبارك وتعالى، وإن كان المسيح أخبر بالأنبياء والمسحاء الكذبة، فمنهم بولس الذي أفسد دين النصارى، ومنهم أحبار السوء الذين حرفوا التوراة والإنجيل.
وأما دعواك أن القرآن مليء بالتناقض؛ فالجواب أن نقول بأن الشتائم لا يعجز عنها أحد، ولكن الدعاوى الصادقة هي القائمة على الأسس والبينات، وقد ردد هذا الكلام قبلك جماعات لا يحصون كثرة ممن هم على شاكلتك، والقرآن هو القرآن باق بتأثيره وهدايته وإعجازه وإفحامه للمعاندين دون أدنى اختلاف أو اختلال: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا {النساء: 82}.
ولا يضر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا القرآن أن يسبه أقزام لا يفقهون، فهذه طبيعة الحق لا بد من أن يصادمه الباطل، ثم تدور على الباطل وأهله الدائرة، وقد أرسل الله عيسى عبده ورسوله، وأظهر على يديه من الخوارق ما دل على صدق نبوته، ومع ذلك كله عارضه بنو إسرائيل وقالوا إن هذا إلا سحر مبين، بل سعوا في قتله لولا أن الله نجاه منهم ورفعه إليه، وله الحمد والمنة.
وهذا الذي قيل في عيسى -عليه السلام- هو الذي يردده عبر العصور من لم يؤمن بنبينا -صلى الله عليه وسلم-، ولم تخالط بشاشة الإيمان قلبه، وليس ذلك بنافعهم بل هو حسرة ووبال عليهم: وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم {الأحقاف:11}.
وأما زعمك بأن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قال إن عيسى هو الديان، فمن أبطل الباطل وأزور الزور، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقل إلا أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهذه دواوين الإسلام التي سجل فيها كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإسناد إليه، ويستحيل أن يوجد فيها شيء من هذا الهذيان.
وأما الكلام الأخير الذي ذكرته ونسبته إلى من سميته يسوع، فاعلم بأن أنبياء الله جميعا بعثوا بالإسلام وهو ألا يعبد إلا الله وحده، واعلم كذلك بأن المسلمين هم الذين علموا الدنيا كلها كيف يكون حسن الخلق، وكيف يكون العفو والصفح، ولكن هذا كله موضوع في ضوابط وأطر نظمها ديننا الحنيف الذي هو أكمل الشرائع وأجمعها لخير الدنيا والآخرة.
وما يزعمه النصارى من أنهم دعاة سلام وتسامح؛ خرافة تبين الأيام كذبها، وليس ما حصل في الحملات الصليبية حين ساخت أقدام الصليبين في دماء المسلمين ببيت المقدس إلا مثال من أمثلة كثيرة على تسامح الصليبين ودعوة النصارى للسلام، وقارن إن شئت الوصول إلى الحق ومعرفة من هم دعاة السلام حقا بين سلوك النصارى حين أخذوا الأندلس من أيدي المسلمين، وما حدث هناك من المأساة المعروفة بمحاكم التفتيش، وبين سلوك المسلمين الفاتحين وأيديهم الناصعة البياض حين خلصوا النصارى من استعباد أبناء دينهم لهم، وعاشوا في ظل دولة الإسلام حياة لم يكونوا يحلمون بعشر معشارها.
ألا فاعلم -هداك الله- أن الأخلاق الفاضلة لا تلتمس إلا من مشكاة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان صلى الله عليه وسلم مسك الختام لركب الأنبياء المبارك، وكانوا جميعا على دين واحد هو الإسلام.
وفي الختام ننصحك بما قدمنا به النصح، فإن كنت محبا لنفسك، حريصا عليها، فسارع إلى الدخول في دين الله الحق من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، فنحن نخاف عليك ونحب لك الخير، ونسأل الله أن يهديك ومن على شاكلتك سواء السبيل.
والله أعلم.