الحجاب ومسألة اختلاف العلماء في فهم نصوصه

0 992

السؤال

السؤال يتعلق بالحجاب المفروض على المرأة المسلمة.
أدلة فرض الحجاب؟ من القرآن الكريم: وهنا نتمنى من المفتي أن ينبهنا بآيات إضافية على الآيات: 31-30 من سورة النور و65 من سورة الأحزاب 59.
أما إن عجز المفتي عن ذلك، فتبين معاني الكلمات في هاتين الآيتين الكريمتين، وكيف تم ربط الكلمات ليفرض الحجاب: إلا وهو تغطية الرأس والرقبة بشكل كامل لأجنبي، مع التركيز الخاص على: وليضربن بخمرهن على جيوبهن. ما هي الجيوب بالتحديد؟ وكيف تم ربطها بفرض الحجاب؟
يدنين عليهن من جلابيبهن، ما هي الجلابيب بالتحديد؟ وكيف تم ربطها بفرض الحجاب؟
.السنة النبوية الشريفة: وهنا نتمنى تبين الحديث الشريف ومصدره إذا ما كان الحجاب مفروضا، كما ذكر في فتوى رقم: 43905 وغيرها، فلماذا لا يوجد نص صريح وواضح لا يقبل التأويل ولا يكون رهينة لتفسير العلماء عبر العصور وإن أخطؤوا حاله حال الفرائض الأخرى؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقد سبق لنا في الفتويين رقم: 4470، 8287، بيان الأدلة على وجوب الحجاب، وأوردنا فيها أدلة القرآن غير الآيتين اللتين أشير إليهما في السؤال، وهي قوله تعالى: والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم. {النور:60} وقوله عز وجل: وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن {الأحزاب:53} وسبق هناك ذكر وجه دلالة كل آية على الموضوع، وكذلك سبق هناك بيان معنى الجلباب، حيث قرر أكثر المفسرين أن معنى قوله تعالى: يدنين عليهن من جلابيبهن: الأمر بتغطية الوجه، فإن الجلباب هو ما يوضع على الرأس، فإذا أدني ستر الوجه. وقيل: الجلباب ما يستر جميع البدن، وهو ما صححه الإمام القرطبي.

وأما معنى الجيوب وعلاقة ذلك بالحجاب، فقال الشوكاني: الجيوب جمع جيب ، وهو موضع القطع من الدرع والقميص، مأخوذ من الجوب وهو القطع. قال المفسرون: إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن، وكانت جيوبهن من قدام واسعة، فكان تنكشف نحورهن وقلائدهن، فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتستر بذلك ما كان يبدو، وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء الذي هو الإلصاق.

وقال سعيد بن جبير: {وليضربن}: وليشددن { بخمرهن على جيوبهن } يعني: على النحر والصدر، فلا يرى منه شيء، وقال ابن الجوزي: المعنى وليلقين مقانعهن على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وقرطهن وأعناقهن.

وقال الجلال السيوطي: أي يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالمقانع.

ومما يدل على الحجاب من كتاب الله أيضا، قوله تعالى: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا {الأحزاب/33}

قال مقاتل بن سليمان: (وقرن في بيوتكن) ولا تخرجن من الحجاب (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) والتبرج أنها تلقي الخمار عن رأسها ولا تشده ، فيرى قرطها وقلائدها .. أمرهن أيضا بالعفة وأمر بضرب الحجاب عليهن.

والتبرج قال أبو عبيدة: أن يبرزن محاسنهن. وقال الزجاج: التبرج إظهار الزينة وما يستدعى به شهوة الرجل.

وأما أدلة السنة فقد سبق في الفتويين المحال عليهما آنفا حديثان في هذا. ومن أدلة السنة أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها. رواه مسلم.

 فقوله "كاسيات عاريات" مما يدخل في معناه أن يكشفن بعض جسدهن ويسدلن الخمر من ورائهن فهن كاسيات كعاريات. قاله ابن الأثير وذكر نحو هذا المعنى كثير من أهل العلم كالبغوي في شرح السنة  والقاضي عياض في مشارق الأنوار والنووي في شرح مسلم وابن الجوزي في غريب الحديث  والزرقاني في شرح الموطأ والمناوي في فيض القدير

ومن أدلة السنة أيضا حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبرا. فقالت: تنكشف أقدامهن؟ قال: فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه. رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني. ففي هذا الحديث أن جميع قدم المرأة عورة، ولذلك احتاجت إلى الإسبال من أجل ستر هذه العورة، ذكره ابن حجر وابن رسلان وذكره من المعاصرين ابن عثيمين في شرح رياض الصاحين.

ثم ننبه على أن قدر الحجاب الذي ذكره السائل، وهو تغطية الرأس والرقبة بشكل كامل فرضيته ووجوبه قطعي الثبوت والدلالة.

 قال ابن حزم: اتفقوا على أن شعر الحرة وجسمها حاشا وجهها ويدها عورة، واختلفوا في الوجه واليدين حتى أظفارهما أعورة هي أم لا.

وجاء في الموسوعة الفقهية: اتفق الفقهاء على وجوب حجب عورة المرأة والرجل البالغين بسترها عن نظر الغير الذي لا يحل له النظر إليها. وعورة المرأة التي يجب عليها حجبها عن الأجنبي هي في الجملة جميع جسدها عدا الوجه والكفين. وجاء فيها أيضا: اتفق الفقهاء على أن الأذن في المرأة من العورة ، ولا يجوز إظهارها للأجنبي.

وينبغي أن تكون أمهات المؤمنين والصحابيات الكريمات هن القدوة في هذا الباب ، سواء في الفهم أو في السلوك، فقد قال الله تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم {التوبة:100}

 فمن أراد أن يتبعهم بإحسان فليقرأ ما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يرحم الله نساء المهاجرات الأول؛ لما أنزل الله (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) شققن مروطهن فاختمرن بها. رواه البخاري.

 قال ابن حجر: فاختمرن أي غطين وجوههن؛ وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر وهو التقنع. قال الفراء : كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها فأمرن بالاستتار، والخمار للمرأة كالعمامة للرجل انتهـى.

وقالت عائشة أيضا: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات في مروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد. متفق عليه.

وعن أم سلمة قالت: لما نزلت (يدنين عليهن من جلابيبهن) خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية. رواه أبو داود، وصححه الألباني.

فقول السائل الكريم: لماذا لا يوجد نص صريح وواضح لا يقبل التأويل فإن كان قصدك بالحجاب هو ستر جسد المرأة ما عدا الوجه فالنصوص السابقة دلالتها على ذلك واضحة جلية ولذلك حصل الإجماع الذي ذكرناه في أول هذه الفتوى. وإن كان قصدك بالحجاب هو ستر الوجه، فالجواب: أن هذا الاعتراض ليس في محله لأنه قد يفهم منه أنه اعتراض على الله تعالى في كيفية التشريع ولا يخفى عليك خطورة ذلك.

ثم إنه ينبغي التنبه إلى أنه إن اشتبهت دلالة نص من نصوص الشرع فيجب أن ترد إلى نص محكم تفهم من خلاله، كما قال تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب {آل عمران/7}

قال السعدي: { منه آيات محكمات } أي: واضحات الدلالة، ليس فيها إشكال { هن أم الكتاب } أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، { و } منه آيات { أخر متشابهات } أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة انتهى.

وكذلك ينبغي أن تفهم آيات القرآن في ضوء السنة القولية والعملية، ثم من خلال أهل العلم والديانة الثقات المأمونين، كما قال تعالى: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا {النساء:83}.

قال السعدي: في هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ.

وبهذه الآيات وأمثالها يتبن مجانبة السائل للصواب في قوله: ولا يكون رهينة لتفسير العلماء عبر العصور، حيث أمر الله بسؤال أهل الذكر، وأمر أن ترد إليهم الأمور، فإنهم ورثة الأنبياء. والمقصود أن الحاجة لأهل العلم الموثوقين لفهم نصوص الوحي واستنباط الأحكام منها ـ لا يمكن الاستغناء عنها.

فإن اختلف أهل العلم في فهم النصوص فلاختلافهم أسباب وحدود، وقد سبق ذكر سبب اختلاف الصحابة وفقهاء المذاهب في مسألة الحجاب في الفتويين: 8529 ، 54719. كما سبق أن بينا نوعي الاختلاف المحمود والمذموم، وطبيعة الخلاف الحاصل بين أهل العلم في الفتويين: 8675، 51519. ولمزيد من الفائدة في مسألة الحجاب يمكن مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 15665، 59641، 11518، 101825.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة