أقوال أهل العلم في تفسير نفسي جهنم في الصيف والشتاء

0 670

السؤال

سؤالي لم أجد له جوابا رغم بحثي المتواصل، وسؤالي هو: في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن للنار نفسين، نفسا في الصيف ونفسا في الشتاء، وأن ما نجده في الصيف والشتاء هو من نفس النار، كيف ذلك؟ والشتاء والصيف يتعاقبان على الوجهات الجنوبي والشمالي للكرة الأرضية، يعني إذا كان عند أستراليا صيف فعندنا شتاء والعكس صحيح، فلا أجد أي تفسير مقنع، وهو لايبدو لي من الغيبيات، بل إنه حقيقة ظاهرة نحس بها بل حتى في الصيف تجد مناطق لاتحس فيها بحر، فهل نفس النار لاتحس به إلا في مناطق معينة؟ يعني مثلا في سويسرا لا تحس بحرارة الصيف؟.
أرجوكم أفيدوني أثابكم الله.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن الأصل الواجب هو تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما قاله بدون استثناء، لقوله تعالى في تزكية كلامه صلى الله عليه وسلم: وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى {النجم:4}.

وقد كان الصحابة يحدثون عنه ويقولون: حدثنا رسول الله: وهو الصادق المصدوق. كما في الصحيح عن ابن مسعود.

ثم إنه قد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتكت النار إلى ربها فقالت: يارب، أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير. وفي رواية: قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حرأو حرور فمن نفس جهنم. رواه مسلم في صحيحه.

وفي رواية: اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فجعل لها نفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف  فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها. رواها ابن ماجه وصححها الالباني.

واعلم أنه قد تختلف أحوال الأرضين في الحر والبرد، فما يصدر من الحر سببه حر النار المنتقل بواسطة حر الشمس، وما يصدر من البرد الشديد سببه البرد الذي يأتي من النار، فتنفسها في الحالين سبب للبرد والحر، فالظاهر أن النار يوجد فيها الحر والبرد في وقت واحد، والحر يأتي من النار بواسطة الشمس، فأي منطقة كانت الشمس قريبة منها واشتد فيها الحر بسبب قرب الشمس وبعدها وعدم وجود عارض يمنع التأثر من حرها فذلك بسبب حر النار، وقد يتخلف أثر السبب لعارض آخر في بعض الأمكنة أو لأزمنة، حيث تقرب الشمس ويكون الحر خفيفا بسبب وجود الأمطار أو بسبب التيار البارد الذي يأتي من البحر، كما في بعض الدول الأوربية وشمال إفريقيا الغربية، فقد يكون الصيف فيها خفيف الحر بسبب التيار الهوائي البارد الذي يأتي من البحر أو بسبب الأمطار، ولا مانع أن يأذن الله للنار بتنفس بارد تحصل به برودة الجو في بعض البلدان.

قال ابن عبد البر في التمهيد: وأما قوله: فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف.

فيدل على أن نفسها في الشتاء غير الشتاء، ونفسها في الصيف غير الصيف، وفي رواية جماعة من الصحابة زيادة في هذا الحديث وذلك قوله: فما ترون من شدة البرد فذلك من زمهريرها، وما ترون من شدة الحر فهو من سمومها، أو قال من حرها.

وهذا أيضا ليس على ظاهره وقد فسره الحسن البصري في روايته فقال: اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فخفف عني قال: فخفف عنها وجعل لها كل عام نفسين، فما كان من برد يهلك شيئا فهو من زمهريرها، وما كان من سموم يهلك شيئا فهو من حرها.

وقوله في هذا الحديث: زمهرير يهلك شيئا وحر يهلك شيئا، تفسير ما أشكل من ذلك، والله أعلم.

وقال السيوطي في تنوير الحوالك في تفسير الحديث السابق: قال القاضي عياض: قيل معناه أنها إذا تنفست في الصيف قوي لهب تنفسها حر الشمس وإذا تنفست في الشتاء دفع حرها شدة البرد الى الأرض، وقال ابن عبد البر لفظ الحديث يدل على أن نفسها في الشتاء غير الشتاء ونفسها في الصيف غير الصيف، وقال ابن التين فإن قيل: كيف يجمع بين البرد والحر في النار؟ فالجواب أن جهنم فيها زوايا فيها نار، وزوايا فيها زمهرير وليست محلا واحدا يستحيل أن يجتمعا فيه، وقال مغلطاي: لقائل أن يقول: الذي خلق الملك من ثلج ونار قادر على جمع الضدين في محل واحد قال وأيضا فالنار من أمور الآخرة والآخرة لا تقاس على أمر الدنيا. اهـ.

وقال المباركفوري في شرح المشكاة: فإن شدة الحر من فيح جهنم.

 بفتح فاء وسكون ياء ثم حاء مهملة أي: من سطوع حرها وسعة انتشارها وتنفسها.

وظاهره أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة، وقيل بل هو على وجه التشبيه والاستعارة، وتقديره أن شدة الحر تشبه نار جهنم، فاحذروه واجتنبوا ضرره، والأول أولى، ويؤيده قوله: اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين.

قال النووي: هو الصواب، لأنه ظاهر الحديث، ولا مانع من حمله على حقيقته، فوجب الحكم بأنه على ظاهره. واستبعد هذا بل استشكل، لأن اشتداد الحر في الأرض تابع لقرب الشمس وبعدها، كما هو المشاهد المحسوس. وأجيب بأنه يمكن أن يكون الشمس، بحيث أن جعل الله تعالى بين مادة جرمها وبين جهنم ارتباطا وعلاقة ومناسبة تقبل بها الشمس حرارة نار جهنم حتى تكون حرارة الشمس سببا لاشتداد الحر في الأرض في الظاهر، وحينئذ فلا استبعاد في نسبة اشتداد الحر في البلاد إلى فيح جهنم، لأنه هو السبب الأصلي الباطني الغيبي لذلك، والله تعالى أعلم.اهـ.

وقال الملا على القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: قال بعضهم فعلم من الحديث أن في النار شدة الحر وشدة البرد، وقيل كل منهما طبقة من طبقات الجحيم، قال ابن الملك: وهذا من جملة الحكم الإلهية حيث ظهر آثار الفيح في زمان الحر وآثار الزمهرير في الشتاء لتعود الأمزجة بالحر والبرد فلو انعكس لم تحتمله إذ الباطن في الصيف بارد فيقاوم حرالظاهر وفي الشتاء حار فيقاوم برد الظاهر، وأما اختلاف حر الصيف وبرد الشتاء في بعض الأيام، فلعله تعالى: يأمر بأن يحفظ تلك الحرارة في موضع ثم يرسلها على التدريج حفظا لأبدانهم وأشجارهم وكذا البرد. اهـ.

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ في شرح صحيح مسلم: وفي هذا الحديث: دليل على أن الجمادات لها إحساس لقوله: اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا. من شدة الحر، وشدة البرد فأذن الله لها أن تتنفس في الشتاء، وتتنفس في الصيف، تتنفس في الصيف ليخف عليها الحر، وفي الشتاء ليخف عليها البرد، وعلى هذا فأشد ما نجد من الحر: يكون من فيح جهنم، وأشد ما يكون من الزمهرير: من زمهرير جهنم .

فإن قال قائل: هذا مشكل حسب الواقع، لأن من المعروف أن سبب البرودة في الشتاء هو: بعد الشمس عن مسامتة الرؤوس، وأنها تتجه إلى الأرض على جانب، بخلاف الحر، فيقال: هذا سبب حسي، لكن هناك سبب  وراء ذلك، وهو السبب الشرعي الذي لا يدرك إلا بالوحي، ولا مناقضة أن يكون الحر الشديد الذي سببه أن الشمس تكون على الرؤوس أيضا يؤذن للنار أن تتنفس فيزداد حر الشمس، وكذلك بالنسبة للبرد: الشمس تميل إلى الجنوب، ويكون الجو باردا بسبب بعدها عن مسامتة الرؤوس، ولا مانع من أن الله تعالى يأذن للنار بأن يخرج منها شيء من الزمهرير ليبرد الجو، فيجتمع في هذا: السبب الشرعي المدرك بالوحي، والسبب الحسي ، المدرك بالحس .

ونظير هذا: الكسوف والخسوف، الكسوف معروف سببه، والخسوف معروف سببه .

سبب خسوف القمر: حيلولة الأرض بينه وبين الشمس، ولهذا لا يكون إلا في المقابلة، يعني: لا يمكن أن يقع خسوف القمر إلا إذا قابل جرمه جرم الشمس، وذلك في ليالي الإبدار، حيث يكون هو في المشرق، وهي في المغرب أو هو في المغرب وهي في المشرق.

أما الكسوف فسببه: حيلولة القمر بين الشمس والأرض، ولهذا لا يكون إلا في الوقت الذي يمكن أن يتقارب جرما النيرين، وذلك في التاسع والعشرين أو الثلاثين أو الثامن والعشرين، هذا أمر معروف، مدرك بالحساب  لكن السبب الشرعي الذي أدركناه بالوحي هو: أن الله ـ يخوف بهما العباد ـ ولا مانع من أن يجتمع السببان الحسي والشرعي، لكن من ضاق ذرعا بالشرع قال: هذا مخالف للواقع ولا نصدق به، ومن غالى في الشرع: قال: لا عبرة بهذه الأسباب الطبيعية، ولهذا قالوا: يمكن أن يكسف القمر في ليلة العاشر من الشهر، لكن حسب سنة الله عز وجل في هذا الكون: أنه لا يمكن أن ينخسف القمر في الليلة العاشرة أبدا. انتهى .

والله أعلم.

 

 

 

 

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات