الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وجه الجمع بين حديث: دلني على عمل يعدل الجهاد، وحديث: الساعي على الأرملة..

السؤال

أرجو توضيح التباس فهمي للأحاديث النبوية الشريفة، كي لا أفهم خطأً أن هناك تعارضًا بين الأحاديث.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد؟" قال: "لا أجده". ثم قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتُر، وتصوم ولا تفطر؟" فقال: "ومن يستطيع ذلك؟!" قال أبو هريرة: "إن فرس المجاهد ليَستنُّ في طوله، فيُكتب له حسنات." أخرجه البخاري. وقد فهمت من هذا الحديث أن أجر الجهاد عظيم ولا يعدله شيء.
وفي حديث آخر: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار." رواه البخاري. فكيف يُعتبر الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، بينما الحديث الأول يشير إلى عدم وجود عمل يعدل الجهاد؟
وجزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فليس هناك تعارض -بحمد الله- بين الحديثين، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل الساعي على الأرملة والمسكين، كالساعي في سبيل الله، لما في عمله من النفع المتعدي، ولما في بذل المال من المشقة، فإن المال شقيق الروح، ولا يلزم من تشبيهه بالمجاهد أن يكون مثله من كل وجه.

قال القاري في المرقاة: الساعي على الأرملة والمسكين (كالساعي في سبيل الله) أي: ثواب القائم بأمرهما، وإصلاح شأنهما، والإنفاق عليهما، كثواب الغازي في جهاده، فإنّ المال شقيق الروح، وفي بذله مخالفة النفس، ومطالبة رضا الرب.
قال النووي: المراد بالساعي: الكاسب لهما، العامل لمؤنتهما، والأرملة: من لا زوج لها، سواء تزوجت قبل ذلك أم لا، وقيل: التي فارقها زوجها
. انتهى.

وقد ورد هذا الإشكال في غير هذا الحديث، وأجاب عنه العلماء بما يمكن أن يجاب به هنا، وذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن عمل يعدل الجهاد، فقال: لا أجده. يفيد أنه لا عمل مثل الجهاد.

وقد ورد أنه: ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبّ إلى الله من أيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله...

قال ابن حجر في الجواب عن هذا الإشكال: وهذه فضيلة ظاهرة للمجاهد في سبيل الله، تقتضي أن لا يعدل الجهاد شيء من الأعمال.
وأمّا ما تقدم في كتاب العيدين من حديث ابن عباس مرفوعًا، ما العمل في أيام أفضل منه في هذه، يعني: أيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد، فيحتمل أن يكون عموم حديث الباب خص بما دل عليه حديث ابن عباس، ويحتمل أن يكون الفضل الذي في حديث الباب مخصوصًا بمن خرج قاصدًا المخاطرة بنفسه وماله، فأصيب، كما في بقية حديث ابن عباس
. اهـ.

فيمكن أن يجاب بأن الحديث الأول عام، خصصه الحديث الثاني محل الإشكال.

ومن الأجوبة: أن أفضلية الأعمال تتفاوت بتفاوت المخاطبين، فصاحب المال غير القادر على الجهاد يقال له: الأفضل في حقك الصدقة، وذو البأس والشدة، يقال له: الأفضل في حقك الجهاد.

وقد جاء في الحديث: ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ ذكر الله. رواه الترمذي، وابن ماجه.

وقال الصنعاني في دفع هذا الإشكال: والجواب: أن فضائل الأعمال تتفاوت بالنظر إلى الرجال وأحوالهم، فالجبان الأفضل له ذكر الله من الجهاد؛ لأنه لا يؤثر في العدو، بل قد يخاف عليه الفرار، والشجاع، الجهاد أفضل له من الذكر، ويجري هذا في مجالات كثيرة تعارض فيها أحاديث الفضائل. انتهى.

والحاصل؛ أنّ الحديث الأول هو من العام المخصوص، أو يجاب بتفاوت الأعمال في الفضل بحسب العاملين، أو بغير ذلك من الأجوبة التي يحصل بها الجمع والتوفيق بين النصوص -بحمد الله-.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني