الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فما تذكره ـ أيها السائل ـ من ندمك على ما كان منك من تقصير في حق أمك لا شك أنه أمارة خير وهذا ـ في الغالب ـ شعور أهل البر من الناس، فإن البار يظل يشعر أنه مقصر في حق والديه مهما فعل لهما, ونرجو أن يكتب الله سبحانه لك بهذا الندم توبة صالحة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الندم توبة. رواه أحمد وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود، وصححه الألباني.
ومحاسبة النفس على أخطائها وهفواتها طاعة عظيمة، فقد قال عمر ـ رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
وقال الحسن: لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: وماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قدما قدما لا يحاسب نفسه.
ويروى عن ميمون بن مهران قال: لا يكون العبد تقيا حتى يحاسب نفسه كما يحاسسب شريكه، من أين مطعمه وملبسه؟.
وما كان منك من تقصير في حق أمك فإنه تكفره التوبة الصادقة وكثرة الاستغفار ثم بالمداومة على الدعاء لها والإحسان إليها بالصدقة وإكرام أصدقائها وصلة أرحامها، فإن ذلك من البر الذي لا ينقطع بوفاتها.
فقد روى أبو داود وابن ماجه عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما.
وأما ما تجده من ندم الآن على فعل بعض الأعمال الصالحة، لأنك لم تفعلها في حياة أمك فهذا فيه جانب طيب ممدوح وهو ندمك على تقصيرك في معاملة أمك بهذا الإحسان، لأنها أولى الناس بذلك, ولكن ينبغي الحذر من أن يجرك هذا إلى ترك هذه الأعمال الصالحة فهذا لا يجوز, وهو من وسوسة الشيطان وكيده ليصرفك عن فعل الخير.
واعلم أن ترك تقبيل يد الوالدين ليس من العقوق، كما بيناه في الفتوى رقم: 128535، كما أن الابن إذا كان الغالب على حاله بر والديه والإحسان إليهما، فإن الله سبحانه يتجاوز عما يكون منه في حقهما من الهفوة والبادرة التي تصدر منه وقت الضجر والغضب، قال سبحانه: ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا {الإسراء:25}.
قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: وقال ابن جبير: يريد البادرة التي تبدر، كالفلتة والزلة تكون من الرجل إلى أبويه أو أحدهما، لا يريد بذلك بأسا، قال الله تعالى: إن تكونوا صالحين. أي صادقين في نية البر بالوالدين فإن الله يغفر البادرة. وقوله: فإنه كان للأوابين غفورا.. وعد بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة. انتهى.
وعليك ـ أيها السائل ـ أن يكون قصدك من عملك إرضاء الله سبحانه وحده دون النظر إلى أمك أو غيرها من الناس خصوصا وأن أمك قد ماتت, ولا يقطع باطلاع الأموات على حال الأحياء وإن كان قد ذكر ذلك بعض أهل العلم.
وقد تعرض ابن كثير أيضا لهذه المسألة في تفسيره عند قوله تعالى: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون { التوبة:105}.
وقال: قد ورد أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ. اهـ.
وأما حصول الحسنات لأمك بسبب أعمالك التي كانت قد دعتك إليها وأمرتك بها حال حياتها فهذا قد دلت عليه النصوص الصريحة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. رواه مسلم وغيره.
وأما ما أمرتك به في الرؤيا المنامية بعد موتها فلا يدخل تحت هذه النصوص، لأن الإنسان بموته قد انقطع عمله إلا من ثلاث كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني.
وراجع خطورة الغضب وأثره في فساد الدين والخلق وسبل التغلب عليه في الفتويين رقم: 080380 ، ورقم: 120186.
والله أعلم.