الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فتعلم العلوم الدنيوية لا شك في كونه من الأمور المطلوبة، وقد يكون تعلم بعض هذه العلوم فرضا على الكفاية إذا لم تتحقق مصلحة المسلمين إلا بتعلمها، وقد يكون تعلم هذه العلوم من العبادات إذا أخلص متعلمها النية وقصد بذلك نفع المسلمين وتحقيق مصلحتهم، وقد نبه على ذلك العلماء عبر العصور ومنهم العلامتان ابن باز وابن عثيمين فهم لم يقللوا من شأن هذه العلوم ـ البتة ـ بل وضعوها في إطارها الصحيح وأنزلوها منزلها الذي جعلها فيه الشرع المطهر، قال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله: العلوم ـ غير العلوم الشرعية ـ أي من استخراج المعادن وشؤون الزراعة والفلاحة وسائر العلوم النافعة، قد يجب منها ما يحتاجه المسلمون، ويكون فرض كفاية، ولولي الأمر فيها أن يأمر بما يحتاجه المسلمون ويساعد أهلها في ذلك، أي بما يعينهم على نفع المسلمين والإعداد لعدوهم، وعلى حسب نية العبد تكون أعماله: عبادة لله عز وجل متى صلحت النية وخلصت لله، وإذا فعلها بدون نية تكون من المباحات. انتهى.
وانظر الفتوى رقم: 40763.
وعلى من تصدى لطلب هذه العلوم أن يحرص على تجنب المنكرات من الاختلاط المذموم وما شابهه، ولكن العلم الذي وردت نصوص الشريعة بمدحه والثناء على أهله هو العلم الشرعي الشريف المستقى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما ثبت في الصحيحين: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
وهو العلم الذي ورثه الأنبياء عليهم السلام أتباعهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
ومن المعلوم ـ قطعا ـ أن الأنبياء عليهم السلام لم يورثوا علوم الدنيا وإنما ورثوا علوم الشريعة التي يتقرب بتعلمها لله عز وجل، وهذا العلم منه ما هو فرض عين على كل مسلم كعلم التوحيد وتعلم العبادات الواجبة من طهارة وصلاة ونحو ذلك، ومنه ما هو فرض كفاية، وانظر الفتوى رقم: 15872، فحمل النصوص الواردة في فضل طلب العلم على العلوم الدنيوية لا شك في كونه من الخطإ، وعلى ما ذكرناه تدل عبارات العلماء من المذاهب المختلفة، ونحن نسوق لك قليلا منها ونترك جلها حذرا من الإطالة، فإن الاستيعاب لا تتسع له هذه الفتوى المختصرة، قال المناوي في شرح الجامع الصغير ـ وهو من الشافعية: طلب العلم فريضة على كل مسلم.
أراد به ما لا مندوحة له عن تعلمه كمعرفة الصانع ونبوة رسله وكيفية الصلاة ونحوها، فإن تعلمه فرض عين. انتهى.
وقال العيني ـ وهو من الحنفية: هذا في المعنى عطف على قوله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله {محمد 19}.
المعنى: إنما يخاف الله من عباده العلماء أي من علم قدرته وسلطانه وهم العلماء.
قاله ابن عباس.
وقال الزمخشري: المراد: العلماء الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده وما يجوز عليه وما لا يجوز فعظموه وقدروه وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علما ازداد منه خوفا، ومن كان عالما به كان آمنا، وفي الحديث: أعلمكم بالله أشدكم له خشية.
وقال رجل للشعبي أفتني ـ أيها العالم ـ فقال: العالم من خشي الله.
وقيل نزلت في أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وقد ظهر عليه الخشية. انتهى.
وأما المالكية: فكلامهم في هذا المعنى كثير، قال ابن بطال المالكي في شرح البخاري في الكلام على حديث: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
فيه: فضل العلماء على سائر الناس.
وفيه: فضل الفقه في الدين على سائر العلوم، وإنما ثبت فضله، لأنه يقود إلى خشية الله والتزام طاعته وتجنب معاصيه، قال الله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء ؟{ فاطر : 28 }.
وقال ابن عمر - للذي قال له: فقيه: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة.
ولمعرفة العلماء بما وعد الله به الطائعين وأوعد العاصين، ولعظيم نعم الله على عباده اشتدت خشيتهم.
وقال القرطبي: طلب العلم ينقسم قسمين:
فرض على الأعيان: كالصلاة والزكاة والصيام.
قلت: وفي هذا المعنى جاء الحديث المروي: إن طلب العلم فريضة.
وفرض على الكفاية: كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه، إذ لا يصلح أن يتعلمه جميع الناس فتضيع أحوالهم وأحوال سراياهم وتنقص أو تبطل معايشهم، فتعين بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين، وذلك بحسب ما يسره الله لعباده وقسمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته.
وطلب العلم فضيلة عظيمة ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل، روى الترمذي من حديث أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر. انتهى بتصرف.
وأما ابن عبد البر: فقد ألف كتابا مفردا في فضل طلب العلم الشرعي أطال فيه وأطاب وهو كتاب: جامع بيان العلم وفضله، فارجع إليه ـ إن شئت.
وأما كون العلامتين ـ ابن باز وابن عثيمين ـ تابعين للمذهب الحنبلي: فهذا حق لا شك فيه، وليس في هذا أي منقصة في حق الشيخين الفاضلين، فما زال العلماء عبر العصور يتمذهبون لأحد المذاهب الأربعة المتبوعة من المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية، والشيخان ـ رحمهما الله ـ معروفان بعدم تعصبهما لمذهب معين، بل ما أكثر المسائل التي خالفا فيها المذهب الحنبلي حين ظهر لهما الدليل بخلافه، ودورهما في نشر السنة وتوصيلها للناس وتعليم الشباب العلم الشرعي الصحيح المبني على الدليل من الكتاب والسنة مما لا يستطيع أن يجحده أحد ـ فرحمهما الله أوسع رحمة وجعل ما قدماه من سعي وجهد في موازين حسناتهما.
والله أعلم.