الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد تضمن سؤالك مسألتين: الأولى هل يأثم من تعمد ترك الإنجاب تفاديا للمسؤولية المترتبة عليه في الدنيا والآخرة، والثانية فضل إنجاب الأولاد والصبر على تربيتهم.
ونبدأ بالمسألة الثانية فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن الإنجاب وتكثير النسل والذرية مقصد شرعي عظيم مرغب فيه لما يترتب عليه من الاستمرار البشري وتعمير الأرض والاستخلاف فيها، قال تعالى عليها: هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها. {61}، ومن الأدلة على الترغيب في الإنجاب وتكثير النسل الأمر بإنكاح المرأة الولود وهي التي تنجب أكثر من غيرها، فعن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال: لا، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم. رواه أبو داود وغيره. وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح.
إضافة إلى أن الولد من كسب أبيه وعمله الذي لا ينقطع بالموت حيث يستفيد الأب من دعاء ولده بعد موته، وقد يموت في حياة أبيه فيثاب على موته إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة التي ذكرها الإمام السيوطي في كتابه الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع حيث قال: وبعضهم يقول: الذي يريد الولد أحمق، فلا نال الدنيا ولا الآخرة، إن أراد أن يأكل أو ينام أو يجامع نغص عليه، وإذا أراد أن يتعبد شغله أيضا -غلط عظيم لأنه لما كان مراد الله تعالى من إيجاد الخلق اتصال دوامها إلى أن ينقضي أجلها، حث الله تعالى الآدمي على ذلك تارة من حيث الطبع بإيقاد نار الشهوة، وتارة من باب الشرع بقوله: وأنكحوا الأيامى منكم. وقول الرسول: تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة، ولو بالسقط.
وقد طلب الأنبياء الأولاد، وتسبب الصالحون إلى وجودهم، ورب جماع حدث منه ولد صالح كالشافعي وأحمد كانا خيرا من عبادة ألف سنة، وقد جاء الخبر بإثابة الجماع بقوله صلى الله عليه وسلم: وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته وله فيها جر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر.
وكذلك الأجر والثواب في النفقة على الزوجة والأولاد، وقد يموت له ولد فيبقى له ذخرا وأجرا كما قال: إذا مات ولد العبد يقول الله تعالى للملائكة: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون: نعم، فيقول الله تعالى: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. أي قال: الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد.
وإما أن يخلفه بعده فيلحقه بركة دعائه كما في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. فمن أعرض عن طلب الأولاد خالف السنة وعدم هذا الفضل والثواب الجزيل. انتهى.
كما ثبت الترغيب في الإحسان إلى البنات خاصة والصبر على تربيتهن لضعفهن وشدة حاجتهن أكثر من الذكور، فقد قال صلى الله عليه وسلم: من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار. متفق عليه واللفظ لمسلم.
قال ابن حجر في فتح الباري: وفي الحديث تأكيد حق البنات لما فيهن من الضعف غالبا عن القيام بمصالح أنفسهن بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن وجزالة الرأي وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال. انتهى.
أما المسالة الأولى في سؤالك فجوابها أن الإنسان لا يأثم بعدم الإنجاب ويتضح ذلك من خلال ما يلي:
1- أن الرجل قد يجوز له ترك الزواج أصلا وقد تقدم بيان ذلك في الفتوى رقم: 26587.
2- يجوز له نكاح امرأة عقيمة لا تلد كما يجوز لها أيضا الرضا بزوج عقيم، كما تقدم بيانه في الفتوى رقم: 127992.
3- يجوز له عدم الإنجاب إذا رضيت زوجته بذلك عن طريق العزل مثلا.
وبذلك يتبين أن ترك إنجاب الأبناء تهربا من المسؤولية ليس صوابا، وتراجع في ذلك الفتوى رقم: 130341.
والله أعلم.