النسائي وأبو داود وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني.
وأما الحديث الذي أشرت إليه في السؤال فلعلك تقصد ما روي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم. رواه البيهقي في شعب الإيمان والطبراني في معجمه الأوسط، لكن هذا الحديث ضعفه الألباني رحمه الله، وقال المناوي في التيسير: والحديث منكر.
وعلى فرض صحته فليس فيه الحث على القراءة بالمقامات، وإنما فيه الحث على تحسين الصوت والأداء دون تكلف ألحان أهل الغناء.
قال المباركفوري في مرقاة المفاتيح: قوله: اقرؤا القرآن بلحون العرب. قال الجزري: اللحون والإلحان جمع لحن، وهو التطريب وترجيع الصوت وتحسين قراءة القرآن أو الشعر أو الغناء
(وأصواتها) أي ترنماتها الحسنة التي لا يختل معها شي من الحروف عن مخرجه لأن ذلك يضاعف النشاط قال القاري: وأصواتها عطف تفسيري أي بلا تكلف النغمات من المدات والحركات الطبيعة الساذجة عن التكلفات (وإياكم ولحون أهل العشق) أي أصحاب الفسق من المسلمين الذين يخرجون القرآن عن موضعه بالتمطيط بحيث يزيد أو ينقص حرفا فإنه حرام إجماعا... قيل: المراد بلحون أهل العشق ما يقرأ بها الرجل في مغازلة النساء في الأشعار برعاية القواعد الموسيقية والتكلف بها... (ولحون أهل الكتابين) أي التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى وكانوا يقرؤن كتبهم نحوا من ذلك ويتكلفون لذلك ومن تشبه بقوم فهو منهم. قال في جامع الأصول: ويشبه أن يكون ما يفعله القراء في زماننا بين يدي الوعاظ وفي المجالس من اللحون الأعجمية التي يقرأون بها نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (يرجعون) بالتشديد أي يرددون أصواتهم (بالقرآن) قال الجزري: الترجيع ترديد الحروف كقراءة النصارى (ترجيع الغناء) بالكسر والمد بمعنى النغمة أي كترجيع أهل الغناء (والنوح) بفتح النون أي وأهل النياحة. قال القاري: المراد ترديدا مخرجا لها عن موضوعها إذ لم يتأت تلحينهم على أصول النغمات إلا بذلك. انتهى.
والخلاصة أنه يجب عليك أثناء القراءة أن تنطق بالحروف نطقا صحيحا، وأن تتجنب الخطأ في الحركات، كرفع المنصوب وجر المرفوع ونحو ذلك، أو أن تجعل الحركات حروفا، كجعل الضمة واوا، والكسرة ياء، والفتحة ألفا، كما ينبغي أن تراعي قواعد التجويد من مد الممدود وقصر المقصور، وتفخيم المفخم وترقيق المرقق، وإعطاء كل حرف حقه ومستحقه، مع تحسين صوتك وأدائك بقدر استطاعتك حتى يكون خاشعا مؤثرا، وهذا هو التغني الذي أمرنا به كما سبق ذكره.
وأما تكلف القراءة بالمقامات فليس من آداب القراءة المشروعة في شيء، بل هو مذموم، كما بينا في الفتوى رقم: 77939 وما أحيل عليه فيها.
قال ابن القيم في زاد المعاد: وفصل النزاع، أن يقال: التطريب والتغني على وجهين، أحدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم، بل إذا خلي وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز، وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا. والحزين ومن هاجه الطرب، والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع، وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع، وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.
الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة، والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف، وعابوها، وذموها، ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبين الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف، يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها، ويسوغوها، ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرأون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرؤونه بشجى تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن. وفيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله، والثاني: أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وأما الصلاة وراء من يلحن في قراءته، فهي صحيحة مع الكراهة طالما كان في غير الفاتحة، وأما اللحن في الفاتحة، فإن كان لا يغير المعنى فالصلاة صحيحة أيضا، وأما إن كان يغير المعنى فهذا هو الذي تبطل به الصلاة على تفصيل في ذلك سبق بيانه في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 60642، 13127، 23898
والإمامة شأنها عظيم، ولا يتصدر لها إلا أقرأ القوم للقرآن، لما رواه مسلم من حديث أبي مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله..... وانظر شرح ذلك في الفتوى رقم: 25305.
والله أعلم.