الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فعدد الأحاديث التي أعلها الدارقطني في الصحيحين على ما أحصاه الحافظ ابن حجر يبلغ مائتي حديث وعشرة، المتفق عليه منها اثنان وثلاثون، وانفرد البخاري بثمانية وسبعين، ومسلم بمائة.
وقد عقد الحافظ في مقدمة فتح الباري لذلك فصلا فقال: الفصل الثامن في سياق الأحاديث التي انتقدها عليه حافظ عصره أبو الحسن الدارقطني وغيره من النقاد، وإيرادها حديثا حديثا على سياق الكتاب وسياق ما حضر من الجواب عن ذلك. اهـ.
ومما قال فيه: وعدة ما اجتمع لنا من ذلك مما في كتاب البخاري وإن شاركه مسلم في بعضه مائة وعشرة أحاديث، منها ما وافقه مسلم على تخريجه وهو اثنان وثلاثون حديثا، ومنها ما انفرد بتخريجه وهو ثمانية وسبعون حديثا. اهـ.
ثم قال في نهاية الفصل: هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد المطلعون على خفايا الطرق وليست كلها من أفراد البخاري بل شاركه مسلم في كثير منها.. وليست كلها قادحة بل أكثرها الجواب عنه ظاهر والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسف، كما شرحته مجملا في أول الفصل وأوضحته مبينا أثر كل حديث منها، فإذا تأمل المنصف ما حررته من ذلك عظم مقدار هذا المصنف في نفسه وجل تصنيفه في عينه وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم. اهـ.
وهذا الكلام الأخير فيه جواب لآخر استفسار السائل: هل تنقص جلالة الكتابين بهذه الأحاديث المعلة؟
وراجع لتفصيل ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 35370، 18830، 13678، 122155، 99615.
هذا، وقد نص الشيخ مقبل الوادعي في تحقيقه لكتاب الإلزامات والتتبع للدارقطني بأن عدد ما فيه من الأحاديث المنتقدة على الصحيحين: مائتا حديث، من غير المكرر.
وأورد الشيخ ربيع المدخلي في رسالته العلمية بين الإمامين مسلم والدارقطني الأحاديث المنتقدة على مسلم من الدارقطني فبلغت أربعة وتسعين حديثا.
ومما ينبغي التنبه له أن كثيرا من هذه الأحاديث إنما يتوجه الطعن إلى سندها لا إلى متنها، وسبب ذلك أنها تكون مخرجة في الشواهد والمتابعات، فيتخفف الإمام من شرط الصحة اعتمادا على ثبوت المتن من أوجه أخرى قد أخرجها في أصل الباب، أو في موضع آخر من الكتاب. وأحيانا يسند الإمام حديثا لبيان علته لا للاحتجاج به. وأحيانا يكون الطعن ليس من باب التضعيف أصلا ولكن لبيان أن هذا الحديث لم يبلغ الدرجة العليا من الصحة. هذا، وفي كثير من الأحيان يكون الوهم من المنتقد نفسه لا من أحد الإمامين. وفي قليل من مواضع الانتقاد يصيب المنتقد ويتم له انتقاده.
ويمكن أن نجمل القول بما ذكره الشيخ مقبل في مقدمة تحقيق الإلزامات والتتبع حيث قال: قد نبغ في عصرنا نابغة من ذوي الأهواء يتهجمون على كتب السنة فيصححون ما كان موافقا لأهوائهم وإن كان ضعيفا، ويضعفون ما لا يهوون وإن كان في الصحيحين، وإذا قال القائل: إن الأمة قد تلقت ما في الصحيحين بالقبول. قالوا: فهذا الدارقطني وأبو مسعود الدمشقي وأبو علي الجياني الغساني قد استدركوا على الصحيحين. فأحببت أن أنقل لهؤلاء كلام أهل العلم في الإجابة عن هذه الاستدراكات ليعلموا أن غالب هذه الاستدراكات في الصناعة الحديثية ليست في أصل المتن. اهـ.
وأما بخصوص الحديثين المذكورين في السؤال، فالحديث الأول حكم عليه بالفعل الشيخ الألباني بالشذوذ، ونقل تعليل البيهقي له، فإنه من رواية أبي طلحة الراسبي، وهذا لم يخرج له مسلم إلا هذا الحديث الواحد، وقد أخرجه له في الشواهد لا في الأصول. انظر السلسلة الضعيفة: 5399.
وقال ابن حجر في فتح الباري: في حديث الباب يعني قوله صلى الله عليه وسلم: من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها.. وما بعده دلالة على ضعف الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية غيلان بن جرير عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه رفعه: يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى. فقد ضعفه البيهقي وقال: تفرد به شداد أبو طلحة، والكافر لا يعاقب بذنب غيره لقوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى. وقد أخرج أصل الحديث مسلم من وجه آخر عن أبي بردة بلفظ: إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول: هذا فداؤك من النار. قال البيهقي: ومع ذلك فضعفه البخاري وقال: الحديث في الشفاعة أصح. اهـ.
فظهر بذلك أن الإمام مسلما رحمه الله لم يخرج هذا الحديث في الأصول، بل في الشواهد، وذلك بعد أن أسند الرواية الصحيحة لهذا الحديث من طرق غير طريق الراسبي، ومع ذلك فقد خالفه شيخه البخاري فضعف الحديث برمته.
وأما الحديث الآخر فلم نقف على من ضعف جملة "أو سافر" إلا أن الدارقطني قد أورد الحديث بتمامه في الإلزامات والتتبع فقال: أخرج البخاري حديث العوام بن حوشب عن إبراهيم السكسكي عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما. قال: لم يسنده غير العوام. وخالفه مسعر. رواه عن إبراهيم السكسكي عن أبي بردة، قوله. ولم يذكر أبا موسى ولا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. اهـ.
ومع هذا فقد أورد الدارقطني في العلل طرق هذا الحديث والاختلاف فيها، ثم قال: والصواب حديث العوام عن إبراهيم عن أبي موسى. اهـ.
وهي الطريق التي رواها البخاري، وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري: مسعر أحفظ من العوام بلا شك، إلا أن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع، وفي السياق قصة أخذت على أن العوام حفظه، فإن فيه: اصطحب يزيد بن أبي كبشة وأبو بردة في سفر فكان يزيد يصوم في السفر فقال له أبو بردة: أفطر فإني سمعت أبا موسى مرارا يقول، فذكره. وقد قال أحمد بن حنبل: إذا كان في الحديث قصة دل على أن راويه حفظه. اهـ.
وقال الدكتور أبو بكر كافي في رسالته منهج الإمام البخاري: فالترجيح لم يكن لمجرد أحوال الرجال لأن مسعرا أحفظ من العوام، فلو كان الترجيح لمجرد حال الإسناد لكان الحكم لرواية مسعر، لكن لوجود هذه القرائن رجحت رواية العوام وإن كان دون مسعر في الحفظ. اهـ.
والحديث صححه الألباني في إرواء الغليل 560.
والله أعلم.