السؤال
كيف تردون على اللادينيين الذين يؤمنون أن لهذا الكون خالقا، ويستغربون كيف لهذا الخالق العظيم أن يرسل الرسل وينزل الكتب ويستغربون كذلك من أسماء الله كالمنتقم والجبار ويقولون إن هذا لا يليق بخالق عظيم وأن هذا الخالق يجب أن يكون رحيما فقط ؟ أرجو منكم ردا شافيا وبارك الله فيكم ونفع بكم؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالذي نعرفه عن اللادينيين أنهم لا يعترفون بوجود الخالق سبحانه، وقد سبق مناقشة ذلك في عدة فتاوى فراجعي الفتوى رقم: 117924. وما أحيل عليه فيها. وكذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 52377، 63790، 33504.
فلو أقر منهم أحد بوجود الله تعالى وأنه خالق هذا الكون وحده لا شريك له، فهذا ينبغي حصر الكلام معه بداية في مسألتين:
الأولى: ما هي الحكمة من وراء هذا الخلق؟
والثانية: ما هي صفات هذا الخالق العظيم وكيف نعرفها؟
ولا يخفى أنه يتعين على من أقر بأن الخالق العظيم ينبغي أن يتصف بالرحمة أن يقر بأن رحمة الله تعالى لها آثار في الوجود؛ وإلا لما كان لها فائدة. وبقليل من التفكر سندرك أن أعظم هذه المظاهر والآثار لرحمة الله تعالى أن يعرف نفسه لمخلوقه، ويعرفه لماذا خلقه، وما هو مستقبله ومصيره، وما الذي ينفعه ويصلحه وكيف يقوم به، وما الذي يضره ويفسده وكيف يجتنبه.. ونحو ذلك من المهمات التي تتجلى فيها آثار الرحمة. وهذه هي وظيفة الرسل، وغاية إنزال الكتب السماوية. قال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما. {النساء: 165}. وقال تعالى: ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون * كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون. {البقرة: 150-152}.
وقد سبق لنا بيان شيء من حكمة خلق الله للمخلوقات في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 113166، 69481، 33718، 118200. كما سبق لنا بيان الحكمة من إرسال الرسل في الفتويين: 38819، 66084.
وأما دعوى أن الله تعالى ينبغي أن يكون رحيما فقط !! فهذا من سوء الفهم لمعنى الرحمة ومقتضياتها، وكذلك لما يظنه البعض أنه مخالف أو مناقض أو مضاد لها. وبيان ذلك أنه كما ينبغي أن يتصف الخالق بالرحمة فكذلك ينبغي أن يتصف بالعدل ويتنزه عن الظلم. ولا يخفى أن من الظلم البين: التسوية بين أناس مختلفين في حبهم وفعلهم للخير، وبغضهم واجتنابهم للشر، فالعدل يقتضي التفريق بينهم، ومعاملة كل بحسب حاله. وهذا لا يناقض الرحمة في شيء، بل يجليها ويثبتها.
وإذا استبان ذلك، فالسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو اللائق في معاملة المفسدين في الأرض الذين لا يألون الناس خبالا. الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا {الأعراف: 146}. وإذا كان اللائق أن يعاقب هؤلاء ويضيق عليهم، فهل من الرحمة أن ينعموا ويسوى بينهم وبين أهل الخير القابلين للهدى السالكين سبيل الرشاد؟! وهذا السؤال لا يختلف في جوابه اثنان من أهل الحق والإنصاف. ومن خالف فيه فهو مبطل خاسر، وجائر بائر، لا يصح أن يلتفت إليه ولا يستحق أن ينظر في رأيه. فالحق الذي قامت به السموات والأرض قاض بالتفريق بين الناس باعتبار أعمالهم وكسبهم وخصالهم، قال تعالى: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار * أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار. {ص: 27-28}. وقال سبحانه: وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون. {غافر: 58}. وقال عز وجل: أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون. {القلم: 35-36}.
ولذلك كان لا بد أن يتصف الخالق العظيم بالصفات التي تقيم العدل وتظهره، بحيث يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. ومن ذلك ما وصفه سبحانه به نفسه فقال: إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام. {آل عمران: 4}. وراجعي تفصيل القول في تسمية الله تعالى بالمنتقم، في الفتوى رقم: 49892.
وأما اسم الجبار، فمعناه كما قال الطبري: المصلح أمور خلقه، المصرفهم فيما فيه صلاحهم. وكان قتادة يقول: جبر خلقه على ما يشاء من أمره. اهـ. وراجعي في ذلك الفتويين: 16031، 118527.
وهنا لا بد من التنبيه على أن الله تعالى وإن كان متصفا بهذه الصفات كلها، إلا أن الرحمة سابقة وغالبة، وهذا هو غاية الكمال والجلال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي. وفي رواية: غلبت غضبي. متفق عليه.
قال النووي: المراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها. اهـ.
والله أعلم.