والفرق بينهما ظاهر، فإن في الحقوق المالية ينتفع المظلوم بعود نظير مظلمته إليه، فإن شاء أخذها وإن شاء تصدق بها، وأما في الغيبة فلا يمكن ذلك، ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصود الشارع، فإنه يوغر صدره ويؤذيه إذا سمع ما رمي به، ولعله يهيج عداوته ولا يصفو له أبدا. وما كان هذا سبيله فإن الشارع الحكيم لا يبيحه ولا يجوزه فضلا عن أن يوجبه ويأمر به، ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها لا على تحصيلها وتكميلها. انتهى.
واختار أصحابنا أنه لا يعلمه بل يدعو له دعاء يكون إحسانا إليه في مقابلة مظلمته كما روي في الأثر، وهذا أحسن من إعلامه، فإن في إعلامه زيادة إيذاء له، فإن تضرر الإنسان بما علمه من شتمه أبلغ من تضرره بما لا يعلم.
ثم قد يكون ذلك سبب العدوان على الظالم أولا إذ النفوس لا تقف غالبا عند العدل والإنصاف، ففي إعلامه هذان الفسادان.
وفيه مفسدة ثالثة ولو كانت بحق وهو زوال ما بينهما من كمال الألفة والمحبة أو تجدد القطيعة والبغضة والله تعالى أمر بالجماعة ونهى عن الفرقة...
ولو سأل المقذوف والمسبوب لقاذفه هل فعل ذلك أم لا؟ لم يجب عليه الاعتراف على الصحيح من الروايتين، إذ توبته صحت في حق الله تعالى بالندم، وفي حق الإنسان بالإحسان إليه بالاستغفار ونحوه.
وهل يجوز الاعتراف أو يستحب أو يكره، الأشبه أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون الاعتراف أصفى للقلوب كما يجري بين الأوداء من ذوي الأخلاق الكريمة، ولما في ذلك من صدق المتكلم.
وقد يكون فيه مفسدة العدوان على الناس أو ركوب كبيرة فلا يجوز الاعتراف حينئذ.
قال: وإذا لم يجب عليه الإقرار فليس له أن يكذب بالجحود الصريح، لأن الكذب الصريح محرم، والمباح لإصلاح ذات البين هل هو التعريض أو التصريح، فيه خلاف وتقدم، فمن جوز التصريح هناك فهل يجوزه هنا، فيه نظر، ولكن يعرض، فإن في المعاريض مندوحة عن الكذب، فإذا استحلف على ذلك جاز له أن يحلف ويعرض؛ لأنه مظلوم بالاستحلاف، فإنه إذا تاب وصحت توبته لم يبق لذلك عليه حق فلا تجب اليمين عليه.
نعم مع عدم التوبة والإحسان إلى المظلوم يكون باقيا على عدوانه وظلمه، فإذا أنكر بالتعريض كان كاذبا، فإذا حلف كانت يمينه غموسا.
وقال شيخ الإسلام أيضا وقد سئلت عن نظر هذه المسألة وهو رجل تعرض لامرأة غيره فزنى بها ثم تاب من ذلك، وسأله زوجها عن ذلك فأنكر فطلب استحلافه، فإن حلف على نفي الفعل كانت يمينه غموسا، وإن لم يحلف قويت التهمة، وإن أقر جرى عليه وعليها من الشر أمر عظيم.
قال فأفتيته أنه يضم إلى التوبة فيما بينه وبين الله تعالى الإحسان إلى الزوج بالدعاء والاستغفار أو الصدقة عنه ونحو ذلك مما يكون ذابا إيذاءه له في أهله، فإن الزنا بها تعلق به حق الله تعالى وحق زوجها من جنس حقه في عرضه، وليس هو مما ينجبر بالمثل كالدماء والأموال بل هو من جنس القذف الذي جزاؤه من غير جنسه، فتكون توبة هذا كتوبة القاذف وتعريضه كتعريضه، وحلفه على التعريض كحلفه.
وأما لو ظلمه في دم أو مال فإنه لا بد من إيفاء الحق فإن له بدلا.
وقد نص الإمام أحمد رضي الله عنه بالفرق بين توبة القاتل وتوبة القاذف.
قال: وهذا الباب ونحوه فيه خلاص عظيم، وتفريج كربات للنفوس من آثار المعاصي والمظالم، فإن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله عز وجل، ولا يجرئهم على معاصيه، وجميع النفوس لا بد أن تذنب فتعريف النفوس ما يخلصها من الذنوب من التوبة والحسنات الماحيات كالكفارات والعقوبات هو من أعظم فوائد الشريعة. انتهى.