السؤال
هل وجد الإمام مالك الخليفة أبو جعفر المنصور يرفع صوته في المسجد النبوي، فأمره بخفض الصوت، وأن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله؟ وهل هذا الكلام صحيح؟ وهل الإمام مالك ممن أجاز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم؟.
هل وجد الإمام مالك الخليفة أبو جعفر المنصور يرفع صوته في المسجد النبوي، فأمره بخفض الصوت، وأن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله؟ وهل هذا الكلام صحيح؟ وهل الإمام مالك ممن أجاز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد تناول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ هذه القصة المنسوبة لمالك مع أبي جعفر المنصور، وبين بطلانها سندا ومتنا، وبين مذهب مالك في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ونحن ننقل من كلامه ما يحصل به بيان المقصود بشيء من التصرف، قال ـ رحمه الله: ذكر القاضي عياض حكاية بإسناد غريب منقطع، رواها عن غير واحد إجازة، عن ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر ـ أمير المؤمنين ـ مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدب قوما فقال: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون {الحجرات: 2}.
ومدح قوما فقال: إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم {الحجرات: 3}.
وذم قوما فقال: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون {الحجرات: 4}.
وإن حرمته ميتا كحرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله، قال الله تعالى: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما {النساء: 64}.
قلت: وهذه الحكاية منقطعة، فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكا، لاسيما في زمن أبي جعفر المنصور وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذبه أبو زرعة، وابن وارة، وقال صالح بن محمد الأسدي: ما رأيت أحدا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه ـ وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير ـ وقال النسائي: ليس بثقة ـ وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات ـ وفي الإسناد أيضا من لا تعرف حاله، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه، وهي مناقضة لمذهب مالك من وجوه أحدها: قوله: أستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله وأدعو؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم ـ فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين، أن الداعي إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه، بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له ـ هذا قول أكثر العلماء كمالك في إحدى الروايتين والشافعي وأحمد وغيرهم.
وعند أصحاب أبي حنيفة لا يستقبل القبر وقت السلام عليه أيضا، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك عند القبر، بل ولا أطال الوقوف عند القبر للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بدعائه لنفسه، ومما يوهن هذه الحكاية أنه قال فيها: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة ـ إنما يدل على أنه يوم القيامة تتوسل الناس بشفاعته، وهذا حق كما تواترت به الأحاديث، لكن إذا كان الناس يتوسلون بدعائه وشفاعته يوم القيامة كما كان أصحابه يتوسلون بدعائه وشفاعته في حياته، فإنما ذاك طلب لدعائه وشفاعته، فنظير هذا لو كانت الحكاية صحيحة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة في الدنيا عند قبره، ومعلوم أن هذا لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا سنه لأمته، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا غيره من الأئمة، فكيف يجوز أن ينسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل لا يعرف الأدلة الشرعية ولا الأحكام المعلومة أدلتها الشرعية، مع علو قدر مالك وعظم فضيلته وإمامته، وتمام رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها ؟ وهل يأمر بهذا أو يشرعه إلا مبتدع؟ فلو لم يكن عن مالك قول يناقض هذا، لعلم أنه لا يقول مثل هذا، وما أحسن ما قال مالك: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ـ قال: ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك.
فمثل هذا الإمام كيف يشرع دينا لم ينقل عن أحد السلف، ويأمر الأمة أن يطلبوا الدعاء والشفاعة والاستغفار بعد موت الأنبياء والصالحين منهم عند قبورهم، وهو أمر لم يفعله أحد من سلف الأمة؟ انتهى.
وهذا شيء مما ذكره الشيخ ـ رحمه الله ـ مما يتعلق بهذه الحكاية منقولا باختصار، ومن أراده بطوله فليرجع إليه في القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة.
وقال ـ رحمه الله ـ في موضع آخر: بل قد كره مالك وغيره أن يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومالك أعلم الناس بهذا الباب، فإن أهل المدينة أعلم أهل الأمصار بذلك، ومالك إمام أهل المدينة، فلو كان في هذا سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لفظ زيارة قبره لم يخف ذلك على علماء أهل مدينته وجيران قبره، بأبي هو وأمي، ولهذا كانت السنة عند الصحابة، وأئمة المسلمين، إذا سلم العبد على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، أن يدعو الله مستقبل القبلة، ولا يدعو مستقبل الحجرة، والحكاية التي تروى في خلاف ذلك عن مالك مع المنصور باطلة لا أصل لها. انتهى.
وبهذا يتبين لك عدم صحة هذه الحكاية وأن مالكا ـ رحمه الله ـ بعيد كل البعد عن أن تنسب إليه هذه المقالة، وأنه ـ رحمه الله ـ لا يصح عنه تجويز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى التوسل بذاته، أو جاهه وحقه صلى الله عليه وسلم، وقد أطال ابن تيمية النفس في مناقشة هذه المسألة، وبيان أن أحدا من الأئمة المشهورين لا يصح عنه خلاف ذلك، ولكن بعض متأخري المالكية يصححون هذه القصة، ويرون جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل وطلب الدعاء منه في قبره، قال ابن الحاج المالكي في المدخل: وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ويحضر قلبه وخاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره، لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون، ثم يثني على الله تعالى بما هو أهله ثم يصلي عليهم ويترضى عن أصحابهم ثم يترحم على التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم يتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم ويجزم بالإجابة ببركتهم ويقوي حسن ظنه في ذلك فإنهم باب الله المفتوح وجرت سنته سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم، إلى آخر كلامه ـ عفا الله عنه.
وفصل المقال في هذا ما قاله مالك ـ رحمه الله ـ من أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، فالخير كل الخير في اتباع السلف واقتفاء آثارهم وترك ما أحدث بعدهم.
والله أعلم.