الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهدايته تعالى التي هي التوفيق للإيمان والعمل الصالح، لا ينالها كل أحد، وإنما تدرك من كان أهلا لها، فإن الله تعالى حكيم عليم، يضع الأمور في نصابها، وينزل في كل منزلة أهلها، وقد نص القرآن في مواضع على أن الله تعالى أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن لا تليق به فيغويه، قال تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين {القصص: 56}
قال ابن كثير: أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية وبمن يستحق الغواية. اهـ. وقال السعدي: هو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله. اهـ.
وقال عز وجل: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون {الجاثية: 23}
قال السعدي: {وأضله الله على علم} من الله تعالى أنه لا تليق به الهداية ولا يزكو عليها. اهـ.
وقال سبحانه: بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين. {الروم : 29}
قال السعدي: أي: لا تعجبوا من عدم هدايتهم فإن الله تعالى أضلهم بظلمهم، ولا طريق لهداية من أضل الله لأنه ليس أحد معارضا لله أو منازعا له في ملكه. اهـ.
وقال تبارك وتعالى: وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين. {الصف: 5}
قال السعدي: {فلما زاغوا} أي: انصرفوا عن الحق بقصدهم {أزاغ الله قلوبهم} عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها، ولم يوفقهم الله للهدى، لأنهم لا يليق بهم الخير، ولا يصلحون إلا للشر، { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي: الذين لم يزل الفسق وصفا لهم، ليس لهم قصد في الهدى، وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده ليس ظلما منه، ولا حجة لهم عليه، وإنما ذلك بسبب منهم، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه، وتقليب القلوب عقوبة لهم وعدلا منه بهم، كما قال تعالى: { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون }. اهـ.
وقد نص القرآن أيضا في مواضع كثيرة على صفات من يحرمون هذه الهداية، كما في قوله تعالى: والله لا يهدي القوم الظالمين {البقرة: 258}
وقوله: والله لا يهدي القوم الكافرين {البقرة: 264} وقوله: والله لا يهدي القوم الفاسقين {المائدة: 108}
وقوله: إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار {الزمر: 3} وقوله: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب [غافر: 28] وقوله: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين {آل عمران: 86}
وقوله: إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا {النساء: 137}
وقوله: إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا {النساء: 168}
وقوله: إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم {النحل: 104}
وقوله: ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين [النحل: 107].
وفي المقابل نص القرآن على صفات من يستحقون الهداية، بفضل الله تعالى عليهم ورحمته بهم، كما في قوله تعالى: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم {المائدة: 16}
وقوله: قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب * الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب * {الرعد:27، 28}
وقوله: الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب {الشورى: 13} وقوله: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين {العنكبوت:69}