السؤال
قلت لرجل إن العلماء يقولون بتحريم حلق اللحية، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: اعفوا ـ ارخواـ وفروا ـ والأمر يقتضي الوجوب ـ فرد علي أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع اللحية في باب الأمر ولم يضعها في باب النهي، مثال: أنه قال لا تأكلوا ولا تشربوا بالشمال ـ هذا نهي، والقاعدة النبوية تقول: إذا نهيتكم عن شيء فانتهو، وإذا مرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ـ والقاعدة النبوية تقدم على الأصولية، وعلى هذه الأصل يجوز الأخذ منها ولو أراد النهي لقال: لا تحلقوا ـ أرجو توضيح الأمر لي جزيتم خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية نود أن نقرر أن الأحكام الشرعية في عمومها منوطة بالاستطاعة، حتى المحظورات المنهي عنها شرعا إذا اضطر إليها العبد فلا حرج عليه في فعلها، كما قال تعالى: وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه {الأنعام: 119}.
وأما تخصيصه صلى الله عليه وسلم جانب الأمر بالاستطاعة دون النهي في قوله: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم. متفق عليه.
فليس معناه أن جانب النهي لا يراعى فيه قدرة العبد، وإنما كان ذلك من جهة الكف، إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف، بل كل مكلف قادر على الترك بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثم قيد في الأمر بحسب الاستطاعة دون النهي، وقال ابن فرج في شرح الأربعين: قوله: فاجتنبوه ـ هو على إطلاقه حتى يوجد ما يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة وشرب الخمر عند الإكراه، والأصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان كما نطق به القرآن. انتهى.
والتحقيق أن المكلف في ذلك كله ليس منهيا في تلك الحال، وأجاب الماوردي: بأن الكف عن المعاصي ترك وهو سهل، وعمل الطاعة فعل وهو يشق، فلذلك لم يبح ارتكاب المعصية ولو مع العذر، لأنه ترك والترك لا يعجز المعذور عنه، وأباح ترك العمل بالعذر، لأن العمل قد يعجز المعذور عنه، وادعى بعضهم أن قوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم ـ يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي، وقد قيد بالاستطاعة واستويا، فحينئذ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار اهـ. من فتح الباري لابن حجر.
وقال النووي: هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيها ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن، وهذا الحديث موافق لقول الله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم ـ وأما قوله صلى الله عليه وسلم: وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ـ فهو على إطلاقه، فإن وجد عذر يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة أو شرب الخمر عند الإكراه أو التلفظ بكلمة الكفر إذا أكره ونحو ذلك، فهذا ليس منهيا عنه في هذا الحال. اهـ.
والمقصود أن جميع الأحكام الشرعية منوطة بالاستطاعة، سواء في جانب الأمر أو النهي، هذا أولا، وثانيا: أن التقييد بالاستطاعة في جانب الأمر في اللحية لا يختلف عن التقييد بها في غيرها من الواجبات الشرعية، حتى أركان الإسلام من الصلاة والصيام وغيرها، فالواجبات تسقط بالتعذر، ويؤتى منها عند العجز بالمستطاع، وثالثا: أن التقييد بالاستطاعة غير التقييد بالمشيئة، فهناك فرق عظيم بين قولنا: افعل ما تستطيع ـ وبين قولنا: افعل ما تشاء ـ فلا تخلو الذمة في الأول إلا بفعل كل ما يستطاع، وأما الثاني فالأمر فيه متعلق باختيار المكلف وإرادته، بغض النظر عن قدرته.
وأما بالنسبة لموضوع السؤال، فإيضاحه أن يقال: الاستدلال بهذا الحديث في مسألة اللحية، إنما يصح عند عجز المرء عن الإتيان بالمأمور به شرعا، ولا يصح بحال أن يستدل به على الإباحة لمجرد كون الشيء من المأمورات لا المنهيات، وإلا لجاز أن يقال نحو ذلك في إقامة الصلاة مثلا، فإنها أمر لا نهي، ومع ذلك لا يصح أن يقال: يجوز تركها.
وإن كان المراد بموضوع السؤال هو مسألة الأخذ من اللحية لا حلقها، فراجع في ذلك الفتويين رقم: 14055 71215.
والله أعلم.