السؤال
نسمع كثيرا من شيوخ فضلاء أن العبد ينبغي أن يلح فى الدعاء، وأن الله يحب من يتذلل له ويلح فى الدعاء، وأريد أن أسأل أليس هذا يتعارض مع وصف الله لنفسه بأنه الكريم، والكريم فى البشر ما لا يقبل أن يتذلل له أحد بل يعطي قبل أن يسأله السائل. فكيف برب البشر أليس هو أكرم وأرحم من ذلك بما لا يمكن تخيله؟!
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه يفرق في هذا الأمر بين التعامل مع الله والتعامل مع الخلق، فالله تعالى يعطي ويسبغ النعم من دون سؤال وهذا مشاهد، كما يعطي من سأله، وقد تعبدنا بسؤاله والتذلل له والإلحاح عليه في الدعاء، وجعل الدعاء واللجوء إليه والتضرع بين يديه من أعظم العبادات وأفضل القربات، وجعله سببا لرفع البلاء وكسب رضوان الله تعالى، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي. قال يعني عن دعائي ـ سيدخلون جهنم داخرين. رواه أحمد و أبو داود وغيرهما وصححه الشيخ الألباني.
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعا: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء. أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان.
قال شراح الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: الدعاء هو العبادة ـ أي هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة لدلالته على الإقبال على الله والإعراض عما سواه بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه.
وكثرة الدعاء وتكراره والإلحاح على الله تعالى مرغب فيه شرعا، وهو من أسباب الإجابة، كما جاء في شعب الإيمان عن الأوزاعي قال: أفضل الدعاء: الإلحاح على الله عز وجل والتضرع إليه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يسأل الله يغضب عليه. رواه الترمذي.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أفضل العبادة الدعاء، وقرأ: وقال ربكم ادعوني استجب لكم. رواه ابن المنذر والحاكم وصححه.
والتذلل لله تعالى هو المعنى المراد من العبودية. فقد جاء في مختار الصحاح: وأصل العبودية الخضوع والذل، والتعبيد التذليل، يقال طريق معبد، والتعبيد أيضا الاستعباد وهو اتخاذ الشخص عبدا، وكذا الاعتباد، والعبادة الطاعة والتعبد التنسك.. اهـ.
ففي سنن أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قال: إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا. وفي رواية للترمذي: أن يردهما صفرا خائبتين.
فلا مقارنة بين سؤال العبد لله تعالى وإلحاحه عليه في الدعاء وبين سؤال العبد لعبد مثله، ولا بين كرم الله تعالى وكرم العبد، فإن الله سبحانه وتعالى يحب أن يسأل بخلاف العبد، ومجرد دعاء الله تعالى عبادة والإلحاح في ذلك عبادة يحبها الله تعالى سواء استجيب الدعاء أم لا، والدعاء عبودية لله وافتقار إليه وتذلل بين يديه، فكلما كثره العبد وطوله وأعاده وأبداه ونوع جمله كان ذلك أبلغ في عبوديته وإظهار فقره وتذلله وحاجته، وكان ذلك أقرب له من ربه وأعظم لثوابه، وهذا بخلاف المخلوق، فإنك كلما كثرت سؤاله وكررت حوائجك إليه أبرمته وثقلت عليه وهنت عليه، وكلما تركت سؤاله كان أعظم عنده وأحب إليه،كما هو معلوم ومشاهد، والله سبحانه كلما سألته كنت أقرب إليه وأحب إليه، وكلما ألححت عليه في الدعاء أحبك،
وتأخير إجابة الدعاء في بعض الأحيان لا يتنافى مع عظيم كرم الله تعالى وجوده؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الحكيم وهو العليم بحال عباده، وهو أدرى بمصالحهم منهم، وله في تعجيل إجابة دعائهم وتأخيرها حكم لا يعلمونها ويعلمها هو سبحانه وتعالى، كما أن لإجابة الدعاء شروطا فمن لم لم تتوفر لديه لم يكن جديرا بالإجابة. ففي سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يسأل الله يغضب عليه.
قال في تخفة الأحوذي: لأن ترك السؤال تكبر واستغناء وهذا لا يجوز للعبد . وقال الطيبي: وذلك لأن الله يحب أن يسأل من فضله فمن لم يسأل الله يبغضه والمبغوض مغضوب عليه لا محالة. انتهى.
وذكر نقل الحافظ ابن حجر عن السبكي أن الوعيد هنا إنما يتناول من يترك الدعاء تكبرا أما من يتركه لمقصد آخر فلا يدخل في الوعيد.
فقال في الفتح : وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارا، ومن فعل ذلك كفر، وأما من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه .انتهى.
وفي شرح الزرقاني على الموطأ عند شرح حديث : يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول قد دعوت فلم يستجب لي : قال المظهري من له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاؤه لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل، فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة، وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها، وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا ليعطى عوضه في الآخرة، وإما أن يؤخر القبول ليلح ويبالغ في ذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له، ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له. انتهى.
والله أعلم.