السؤال
عندي بعض الشبهات في باب العقيدة أرجو أن تكشفوها مأجورين, وهي أن الله عز وجل فوق خلقه وهو عال عليهم، ومن المعلوم بأن الأرض كروية، فإذا كان الله عز وجل فوقنا فهل الله عز وجل في ذات الوقت يكون تحتنا وهو منزه عن النقص ولكن تحتنا باعتبار أنه أيضا فوق من يقابلنا من الجهة الأخرى من العالم؟ وهل الله عز وجل محيط بخلقة كالسماوات للأرض بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء). فإذا كان تفسير الظاهر بمعنى الفوقية فهل يكون معنى الباطن أنه تحتنا أيضا باعتبار المقابلة في المعنى وهو محيط بنا بذاته كإحاطة السماوات لنا ؟ أفتونا مأجورين.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب على المسلم أن يعتقد أن الله تعالى فوق خلقه مستو على عرشه، وعرشه فوق سماواته، وأنه بائن من خلقه جل وعلا، فهو العلي الأعلى، فوق جميع مخلوقاته سبحانه وتعالى وتقدس. وهذا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة. قال الله تعالى: سبح اسم ربك الأعلى {الأعلى:1}، وقال الله تعالى: يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون {النحل:50}.
وأما الأرض فهي حبة في فلاة بالنسبة لملكوت الله تعالى وهو سبحانه فوق ذلك كله، وله الفوقية المطلقة. فلا وجه لذلك الإشكال ولا يقبل بحال .
وأما عن مسألة الاحاطة فالله تعالى بكل شيء محيط كما هو منصوص في القرآن، وقد أحاط بخلقه علما وقدرة، وليس معنى ذلك أنه تحتهم وفوقهم.
ففي تفسير القرطبي : قال الخطابي : هو الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وهو الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا ... اهـ
وفي تفسير ابن جزي: بكل شيء محيط أي بعلمه وقدرته وسلطانه. اهـ.
وأما الباطن فمعناه القريب؛ كما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم: اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر. فمعنى الباطن هنا أي القريب من خلقه المحيط بهم علما، فهو يعلم السر وأخفى. قال سبحانه: ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون. [الواقعة:85]. وقال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. [ق:16].
وقيل في معنى الباطن: هو المحتجب عن خلقه عن أبصارهم وأوهامهم، وقيل: هو العالم بما يبطن، يقال: بطنت الأمر إذا عرفت باطنه. وانظر تفسير ابن عطية وشرح السندي على ابن ماجه.
ولا يسوغ وصف الله بأنه تحتنا مقابلة للباطن بالظاهر، لأن السفول نقص، والله تعالى وصف بالعلو دون السفول.
فقد قال ابن القيم في الصواعق المرسلة: قد ثبت بصريح العقل أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص فإن الله سبحانه يوصف بالكمال منهما دون النقص، ولهذا لما تقابل الموت والحياة وصف بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل وصف بالعلم دون الجهل، وكذلك العجز والقدرة والكلام والخرس والبصر والعمى والسمع والصمم، والغنى والفقر. ولما تقابلت المباينة للعالم والمداخلة له وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كانت المباينة تستلزم علوه على العالم أو سفوله عنه وتقابل العلو والسفول وصف بالعلو دون السفول، وإذا كان مباينا للعالم كان من لوازم مباينته أن يكون فوق العالم، ولما كان العلو صفة كمال كان ذلك من لوازم ذاته فلا يكون مع وجود العالم إلا عاليا عليه ضرورة، ولا يكون سبحانه إلا فوق المخلوقات كلها. 000اهـ
وقال في طريق الهجرتين في كلامه على الباطن: وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السموات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد. قال تعالى: وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس. وقال: والله من ورآئهم محيط. ولهذا يقرن سبحانه بين هذين الاسمين الدالين على هذين المعنيين اسم العلو الدال على أنه الظاهر وأنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة وأنه لا شيء دونه كما قال تعالى: وهو العلي العظيم. وقال تعالى: وهو العلي الكبير. وقال: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم. وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته وليس شيء في قبضة نفسه ...اهـ
والله أعلم.