السؤال
ما الرد على من قال بأن يوسف عليه السلام ليس قدوة لنا في البعد عن الزنا، لأنه نبي والأنبياء معصومون من الكبائر ، والزنا من الكبائر.
وإذا كان الأنبياء يقعون في الصغائر فمن باب أولى نحن.
جزاكم الله خيرا
ما الرد على من قال بأن يوسف عليه السلام ليس قدوة لنا في البعد عن الزنا، لأنه نبي والأنبياء معصومون من الكبائر ، والزنا من الكبائر.
وإذا كان الأنبياء يقعون في الصغائر فمن باب أولى نحن.
جزاكم الله خيرا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية ينبغي أن نتساءل عن المقصد من وراء هذا الكلام، فإن كان المراد به التهوين من شأن المعاصي، وإيجاد المبررات التي تفتح على الناس أبواب الشر والفساد، فهذا أمر مرفوض شرعا وعقلا، وقد جعل الله الأنبياء وخاتمهم محمدا ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ قدوة وأسوة، يهتدي بها البشر جميعا، قال تعالى: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده. [الأنعام: 90] وقال عز وجل: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا. [الأحزاب: 21] وقال سبحانه: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما. [البقرة: 124].
قال الشيخ الشعراوي يرحمه الله : أي: أتى بها على التمام، فلما أتمهن أراد الله أن يكافئه، فقال: {إني جاعلك للناس إماما ... } فهو - إذن - مأمون على أن يكون إماما للناس لأنه قدوة، أي أنه يشترك مع الناس في أنه بشر، ولكنه جاء بخصال الخير الكاملة فصار أسوة للناس، حتى لا يقول أحد: إنه فعل الخير لأنه ملك، وله طبيعة غير طبيعة البشر، لا. . إنه واحد من البشر، قال فيه الحق سبحانه: {إني جاعلك للناس إماما} أي: أسوة وقدوة، والأسوة والقدوة يشترط فيها أن تكون من الجنس نفسه فلا تكون من جنس مختلف، فلا يجعل الله للبشر أسوة من الملائكة؛ حتى لا يقول أحد: وهل أنا أستطيع أن أعمل مثل عمله؟ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في عرض هذه القضية: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا} فحين تعجب بعض الناس من أن ربنا قد بعث من البشر رسولا أنزل الحق هذا القول، وأضاف سبحانه: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السمآء ملكا رسولا} فما دمتم أنتم بشر فلا بد أن يرسل لكم رسول منكم لتحقق الأسوة، لهذا يقول الحق سبحانه: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون}. اهـ.
وقال الشيخ في قوله عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } [النحل: 43]: الرسول حين يبلغ رسالة الله تقع على عاتقه مسئوليتان: مسئولية البلاغ بالعلم، ومسئولية التطبيق بالعمل ونموذجية السلوك. فيأمر بالصلاة ويصلي، وبالزكاة ويزكي، وبالصبر ويصبر، فليس البلاغ بالقول فقط، لا بل بالسلوك العملي النموذجي. ولذلك كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان خلقه القرآن وكان قرآنا يمشي على الأرض، والمعنى: كان تطبيقا كاملا للمنهج الذي جاء به من الحق تبارك وتعالى. ويقول تعالى في حقه صلى الله عليه وسلم : {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. .}. فكيف نتصور أن يكون الرسول ملكا؟ وكيف يقوم بهذه الرسالة بين البشر؟ قد يؤدي الملك مهمة البلاغ، ولكن كيف يؤدي مهمة القدوة والتطبيق العملي النموذجي؟ كيف ونحن نعلم أن الملائكة خلق جبلوا على طاعة الله: {لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}. ومن أين تأتيه منافذ الشهوة وهو لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل؟ فلو جاء ملك برسالة السماء، وأراد أن ينهى قومه عن إحدى المعاصي، ماذا نتوقع؟ نتوقع أن يقول قائلهم: لا .. لا أستطيع ذلك، فأنت ملك ذو طبيعة علوية تستطيع ترك هذا الفعل، أما أنا فلا أستطيع. إذن: طبيعة الأسوة تقتضي أن يكون الرسول بشرا، حتى إذا ما أمر كان هو أول المؤتمرين، وإذا ما نهى كان هو أول المنتهين. اهـ.
وأما بالنسبة لخصوص نبي الله يوسف عليه السلام، فقد اختلف أهل العلم في الهم المذكور في قوله تعالى: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه. فأثبته بعض أهل العلم، على أنه هم خاطر لا هم عزيمة، وأن ذلك كان موجب الطبيعة البشرية والميل الغريزي، فدفعه نبي الله يوسف بتقوى لله، فصار ذلك حسنة متقبلة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة. متفق عليه. وراجع في تفصيل ذلك الفتوى رقم: 76878 .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الإرادة الجازمة توجب أن يفعل المريد ما يقدر عليه من المراد، ومتى لم يفعل مقدوره لم تكن إرادته جازمة بل يكون هما " ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم تكتب عليه فإن تركها لله كتب له حسنة " ولهذا وقع الفرق بين هم يوسف عليه السلام وهم امرأة العزيز كما قال الإمام أحمد: " الهم همان: هم خطرات، وهم إصرار". فيوسف عليه السلام هم هما تركه لله فأثيب عليه. وتلك همت هم إصرار ففعلت ما قدرت عليه من تحصيل مرادها وإن لم يحصل لها المطلوب. اهـ.
وعلى ذلك فمحل القدوة ظاهر جلي، فقد وجد عليه السلام في نفسه ما يجده بقية البشر نحو هذه الغريزة، ولكن دفعها وتركها لله تعالى. حتى قال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين. [يوسف: 33].
وعلى أية حال، فالفرق بين الأنبياء وصالحي البشر فرق واضح، ولكنه لا يعني انتفاء القدوة عنهم، بل على العكس، ليكون الأنبياء دائما محط أنظار البشر في التأسي والاقتداء، فالعصمة من الذنوب ليست لأحد من البشر بعد الأنبياء، ولذلك وصف الله المتقين فقال: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. (آل عمران: 135) وقال أيضا: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. (الأعراف: 201).
قال السعدي: لما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب - تذكر من أي باب أتي، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب الله عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر الله تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه. اهـ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنا تواب نساء ، إذا ذكر ذكر. رواه الطبراني، وصححه الألباني. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم. رواه مسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): الذنب للعبد كأنه أمر حتم؛ فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات. اهـ.
والمقصود أن ننبه على أن الإشكال ليس في حصول الذنب، وإنما الإشكال في الإصرار عليه واستمرائه؛ وراجع في هذا المعنى الفتوى رقم: 112268.
والله أعلم.