السؤال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليستحله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار أو درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ـ أو كما قال الحبيب، لذلك فالسؤال كما يلي: نحن معشر النساء نخوض في مجالسنا بكلام قلما يخلو من الغيبة والسخرية مما يؤذي الآخرين، فكيف للواحدة منا أن تستحل مظلمتها من ضحايا مجالسها؟ مع العلم أن القضية لا تقتصر في شخص أو شخصين ولا تنحصر في جلسة أو جلستين، بل قد تكون هذه الجلسات المؤذية منذ عدة سنوات أي أننا لا نستطيع أن نحصي الأشخاص الذين أوذوا أو حتى إحصاء أسمائهم، فماذا نفعل كي نصلح ما فات ونطهر الماضي من مظلمة الآخرين قبل فوات الأوان؟ وبارك الله فيكم.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ريب في خطورة هذا الأمر وأنه مما يدل على عظم شأن اللسان ووجوب تعاهده وصيانته، وأن يستحضر العبد أن كل لفظ يلفظ به مسجل عليه محصى في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، قال تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد {ق:18}.
وتكاثرت النصوص النبوية محذرة من غائلة اللسان وأنه أكثر ما يكب الناس في النار على وجوههم وآمرة بحفظه وإمساكه عن السوء، وألا يتكلم من أراد التكلم إلا بخير، قال أبو زكريا النووي ـ رحمه الله: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاما ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء. انتهى.
فمن لم يضبط هذا الأمر وقع في شر عظيم وخطر جسيم، نسأل الله العافية، والسخرية من الناس واغتيابهم من آفات اللسان التي نهى عنها الله ورسوله، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون *يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم {الحجرات: 11ـ12}.
والأحاديث في تحريم الغيبة والنهي عنها كثيرة، والغيبة من كبائر الذنوب على الراجح، كما قال ناظم الآداب:
وقد قيل صغرى غيبة ونميمة وكلتاهما كبرى على نص أحمد.
وإذا علم هذا، فالواجب التوبة إلى الله تعالى مما مر من الغيبة والسخرية ونحوها، وأن يحرص المسلم كل الحرص على أن تكون مجالسه خالية من هذه الآفات، وأن يتوقى مواقعة هذه الذنوب في مستقبل أمره، وأما ما مضى: فالواجب الندم على فعله وتحلل أصحاب هذه المظالم إن علموا وأمكن استحلالهم دون مفسدة، فإن كان استحلالهم يؤدي إلى مفسدة فليتحلل منهم تحللا عاما دون تعيين الحق الذي يتحللهم منه، ومن العلماء من يرى أنه يكفي الاستغفار لهم والثناء عليهم وذكرهم بخير حيث ذكرهم بشر، وهو اختيار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قال السفاريني ـ رحمه الله: قال الإمام ابن القيم في كتابه الكلم الطيب: يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن من كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته تقول اللهم اغفر لنا وله ـ ذكره البيهقي في الدعوات، وقال في إسناده ضعف، قال ابن القيم: وهذه المسألة فيها قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد، وهما هل يكفي في التوبة من الغيبة الاستغفار للمغتاب أم لا بد من إعلامه وتحلله؟ قال والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه، بل يكفيه الاستغفار له وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، قال والذين قالوا لا بد من إعلامه جعلوا الغيبة كالحقوق المالية، والفرق بينهما ظاهر، فإن في الحقوق المالية ينتفع المظلوم بعود نظير مظلمته إليه، فإن شاء أخذها وإن شاء تصدق بها، وأما في الغيبة فلا يمكن ذلك ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصد الشارع، فإنه يوغر صدره ويؤذيه إذا سمع ما رمي به ولعله يهيج عداوته ولا يصفو له أبدا، وما كان هذا سبيله فالشارع الحكيم لا يبيحه ولا يجيزه، فضلا عن أن يوجبه ويأمر به، ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها لا على تحصيلها وتكميلها. انتهى.
وهو كما ترى في غاية التحقيق والله ولي التوفيق. انتهى كلام السفاريني رحمه الله.
وعليه، فمن لم يمكن تحلله لغيبته أو موته أو للجهل به فيكفي الاستغفار له والدعاء له بخير مع الاجتهاد في الإكثار من الحسنات الماحية والتقرب إلى الله تعالى بما أمكن من خصال الخير، ولتنظر الفتوى رقم: 66515.
والله أعلم.