الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالتسرع في إطلاق الكفر ليس مما يحمد، وقد نبهناك مرارا على أن عندك غلوا في هذا الباب كما يظهر من أسئلتك، فاتق الله وانته عن هذا الغلو فإنه يجر إلى ما لا تحمد عاقبته.
وأما الاقتباس فقد عرفه الجلال السيوطي بقوله: الاقتباس تضمين الشعر أو النثر بعض القرآن لا على أنه منه بألا يقال فيه قال الله تعالى ونحوه. انتهى.
وحاصل حكم الاقتباس أنه إن كان في غرض محمود فهو حسن وإلا فهو مكروه أو حرام.
قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب: [فصل في الاقتباس بتضمين بعض من القرآن في النظم والنثر] سئل ابن عقيل عن وضع كلمات وآيات من القرآن في آخر فصول خطبة وعظية؟ فقال تضمين القرآن لمقاصد تضاهي مقصود القرآن لا بأس به تحسينا للكلام، كما يضمن في الرسائل إلى المشركين آيات تقتضي الدعاية إلى الإسلام، فأما تضمين كلام فاسد فلا يجوز ككتب المبتدعة. وقد أنشدوا في الشعر:
ويخزهم وينصركم عليهم ... ويشف صدور قوم مؤمنينا
ولم ينكر على الشاعر ذلك لما قصد مدح الشرع وتعظيم شأن أهله، وكان تضمين القرآن في الشعر سائغا لصحة القصد وسلامة الوضع. انتهى.
وقد فصل الجلال السيوطي رحمه الله القول في حكم الاقتباس وبين ما للعلماء فيه ورجح نحو ما ذكره ابن مفلح عن ابن عقيل، ونحن نسوق من كلامه طرفا يتبين به المقصود، قال رحمه الله: وقد اشتهر عن المالكية تحريمه -أي الاقتباس- وتشديد النكير على فاعله وأما أهل مذهبنا -يعني الشافعية- فلم يتعرض له المتقدمون ولا أكثر المتأخرين مع شيوع الاقتباس في أعصارهم واستعمال الشعراء له قديما وحديثا. وقد تعرض له جماعة من المتأخرين فسئل عنه الشيخ عز الدين بن عبد السلام فأجازه واستدل له بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله في الصلاة وغيرها: "وجهت وجهي: "إلى آخره وقوله: "اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين وأغنني من الفقر ". وفي سياق كلام لأبي بكر: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} . وفي آخر حديث لابن عمر: "قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ". انتهى.
وهذا كله إنما يدل على جوازه في مقام المواعظ والثناء والدعاء وفي النثر لا دلالة فيه على جوازه في الشعر وبينهما فرق، فإن القاضي أبا بكر من المالكية صرح بأن تضمينه في الشعر مكروه وفي النثر جائز.
وفي شرح بديعية ابن حجة: الاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول، ومباح، ومردود. فالأول: ما كان في الخطب والمواعظ والعهود. والثاني: ما كان في القول والرسائل والقصص. والثالث: على ضربين أحدهما ما نسبه الله إلى نفسه - ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقع على مطالعة فيها شكاية عماله: {إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} - والآخر تضمين آية في معنى هزل ونعوذ بالله من ذلك، كقوله:
أوحى إلى عشاقه طرفه هيهات هيهات لما توعدون وردفه ينطق من خلفه لمثل ذا فليعمل العاملون
قلت: وهذا التقسيم حسن جدا وبه أقول. ثم ذكر أمثلة استعمال جماعة من الأفاضل للاقتباس ثم قال: ويقرب من الاقتباس شيئان: أحدهما: قراءة القرآن يراد بها الكلام.
قال النووي في التبيان: ذكر ابن أبي داود في هذا اختلافا فروى النخعي أنه كان يكره أن يتأول القرآن لشيء يعرض من أمر الدنيا... نقول: وقد قال في المغني والشرح: لا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام لأنه استعمال له في غير ما هو له. ذكره ابن مفلح. قال السيوطي: الثاني: -مما يقرب من معنى الاقتباس- التوجيه بالألفاظ القرآنية في الشعر وغيره وهو جائز بلا شك. انتهى.
وبه تعلم أن الاقتباس على هذا النحو في الأغنية المذكورة محرم، وكذا اقتباس صاحب المحل المذكور مما لا ينبغي البتة، وأما الاقتباس في الأناشيد فهو على التفصيل المتقدم.
والله أعلم.