الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس في شيء من الآثار المذكورة في السؤال ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع شعر الجاهليين في مسجده، وفيه الكفر والشرك!!! بل الثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يسمع ما يخدش جناب التوحيد ويمس عقائد المسلمين، إلا ويبين وجه الصواب وينهى عن المنكر، لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم: لما سمع بعض جواري الأنصاري صبيحة بنائه بعائشة، يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر، فقالت جارية منهن: وفينا نبي يعلم ما في غد ـ فلم يسكت صلى الله عليه وسلم، بل نهاها فقال: لا تقولي هكذا وقولي ما كنت تقولين. رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: فيه إشارة إلى جواز سماع المدح والمرثية مما ليس فيه مبالغة تفضي إلى الغلو، وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بنساء من الأنصار في عرس لهن وهن يغنين: وأهدى لها كبشا تنحنح في المربد وزوجك في البادي وتعلم ما في غد ـ فقال: لا يعلم ما في غد إلا الله. اهـ.
وكذلك كان أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ومما يدل على ذلك ما أورده السائل من أثر أبي سلمة بن عبد الرحمن، وفيه: فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله، دارت حماليق عينيه كأنه مجنون.
ومن أمر الله أن لا يذكر الكفر إلا على سبيل الإنكار أو التعجب ونحو ذلك، وقد رواه ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد بلفظ: فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه.
فهل يظن في أمثال هؤلاء أن يتناشدوا الشعر المحتوي على الكفر لجماله اللغوي وسحر قافيته على سبيل الاستمتاع بأسلوب الشاعر بغض النظر عن المعنى؟!! وقد روى البخاري في الكتاب نفسه ـ الأدب المفرد ـ عن خالد بن كيسان قال: كنت عند ابن عمر، فوقف عليه إياس بن خيثمة، قال: ألا أنشدك من شعري يا ابن الفاروق؟ قال: بلى، ولكن لا تنشدني إلا حسنا، فأنشده حتى إذا بلغ شيئا كرهه ابن عمر قال له: أمسك.
وهذا عثمان بن مظعون ينصرف إلى مجلس من قريش ينشدهم فيه لبيد بن ربيعة الشاعر، فقال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ـ فقال عثمان: صدقت، قال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل ـ قال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول. رواه ابن إسحاق في السيرة.
وقد قال النووي في شرح حديث جابر بن سمرة: كانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ـ فيه جواز الحديث بأخبار الجاهلية وغيرها من الأمم. اهـ.
وقد سبق لنا في الفتوى رقم: 113385، التنبيه على أن ناقل الكفر ليس بكافر، فلا حرج في ذكر مثل هذه الأشعار للتحذير منها، وبيان بطلان مضمونها، والتعجب من حال أهلها.
وعلى هذا يحمل ما كان يدور بينهم من حديث الجاهلية أو أمر الجاهلية، على أن أمر الجاهلية لا يلزم أن يكون كفرا، بل الكفر وما دونه يدخل في ذلك، فكل ما يخالف شريعة الإسلام فهو داخل في الجاهلية، قال البخاري في صحيحه: باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنك امرؤ فيك جاهلية ـ وقول الله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. اهـ.
ومن أمثلة ما كانوا يتذاكرونه من حديث الجاهلية ما رواه البخاري عن ابن عمر قال: بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم، علي الرجل، فدعي له فقال له ذلك فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم، قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يوما في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلاص وأحلاسها، قال عمر: صدق بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ثم نادى يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله، فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي.
وقد بوب البخاري في صحيحه في كتاب المناقب باب: أيام الجاهلية ـ وأسند فيه عدة أحاديث فيها بعض أحوال الجاهلية وأخبارها، وقد سبق لنا في الفتوى رقم: 3510، التنبيه على ذم الشعر المشتمل على محرم مما يخل بالعقيدة، أو ينافي الأخلاق الحميدة، أو فيه دعوة إلى الباطل والمنكر والفحشاء، أو فيه هتك لأعراض المسلمين أو أذيتهم أو نحو ذلك وأن جرم ذلك يعظم بحسب موضوعه.
وأما من ينشد الشعر المحتوي على الكفر لا على سبيل الاستشهاد اللغوي، ولا على سبيل التحذير أو التعجب ونحو ذلك، فهو وإن كان مذموما إلا إنه لا يصل إلى الكفر، إلا إن كان مقرا بما يسمع معتقدا إياه أو راضيا به، وراجع في تفصيل ذلك الفتوى رقم: 138223، وما أحيل عليه فيها.
وأما شعر الغزل: فيمنع منه ما كان في امرأة معينة، وكان يغري بالفاحشة، أما إذا كان مبهما وبقصد الاستشهاد وما أشبهه فلا مانع منه، وراجع تفصيل ذلك في الفتاوى التالية أرقامها: 18243، 31012، 114616، 112519، 98513.
وأخيرا ننبه على أن حديث ابن مسعود المذكور في السؤال قال فيه محققو مسند الإمام أحمد: إسناده ضعيف ـ لانقطاعه، عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لم يسمع من عم أبيه عبد الله بن مسعود. اهـ.
وذكره الشيخ مقبل الوادعي في أحاديث معلة ظاهرها الصحة، فقال: هذا الحديث إذا نظرت إلى سنده وجدتهم رجال الصحيح، ولكن رواية عبيد الله عن عبد الله بن مسعود مرسلة كما في تهذيب التهذيب، وفي تحفة الأشراف في ترجمة عبيد الله بن عبد الله: لم يدركه. اهـ.
والله أعلم.