معنى حديث: والإثم ما حاك في النفس...

0 434

السؤال

أنا إنسان لم أبلغ درجة الاجتهاد والترجيح بين الأدلة في الخلافات، لكنني إذا نظرت إلى أدلة العلماء وترجيحاتهم غالبا ما أفهم أقوالهم ويطمئن قلبي لأحد الترجيحات، وسؤالي هو: هل يجب علي دائما أن أنظر أدلة أهل العلم وترجيحاتهم؟ أم أكتفي بتقليد الثقات في المسائل الخلافية؟ أنتم أفتيتم أن العامي يجب عليه أن يرجح بين العلماء من حيث العلم والدين والورع في بعض الفتاوي، لكن في بعضها ملتم إلى قوة قول الذين قالوا إنه يتخير بين العلماء فلماذا؟ وهل يجوز أن أقلد عالما ثقة مثل النووي رغم أنني أرى عند عالم آخر دليلا أوضح وأقوى؟ فمثلا في مسألة قضاء الصلاة الفائتة بعذر بعض الشافعية يرون استحباب المبادرة بها وربما منهم النووي، فهل يجوز أن أقلدهم مع أنني أرى قوة دليل القائلين بوجوب المبادرة وقلبي يطمئن للوجوب لا للاستحباب؟ وبصراحة قلبي غير مرتاح للتقليد الأعمى للعلماء دون النظر في أدلتهم أريحوني أرجوكم، وأيضا إذا رجحت بين العلماء بالأعلمية والدين والورع فما الفرق بين ابن عثيمين والألباني وابن تيمية وابن القيم والنووي والأئمة الأربعة ...إلخ؟ ومن أفضلهم؟ وهل إذا اختلفوا يجوز لي تقليد أي منهم، لأن الأمة شهدت بعدالتهم وعلمهم رغم أنني أرى ضعف قوله وخطأه؟ وأيضا:هل يجب أن أعمل بحديث: والإثم ما حاك في صدرك... في المسائل الخلافية أي أختار ما يطمئن له قلبي في المسائل الخلافية؟ وضحوا الإجابة من فضلكم لأرتاح بارك الله فيكم ورزقكم الفردوس الأعلى.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فمن له القدرة على معرفة الدليل والنظر في أقوال العلماء والترجيح بينها، فعليه أن يتبع الدليل ويترك ما يخالفه، ومن ليست له أهلية لمعرفة الأدلة الشرعية ولا النظر في أقوال العلماء فلا حرج عليه في اتباع مذهب معين أو تقليد عالم معتبر، فإن اختلف عليه المفتون ولم يكن أحدهم أوثق في نفسه من حيث العلم والورع، فله أن يقلد من شاء منهم، وإن عمل بالاحتياط والورع كان أبرأ لذمته، وقد سبق لنا تفصيل ذلك في الفتاوى التالية أرقامها: 100108، 169143، 17519.
وعلى ذلك، فإن كان السائل على قدر من الأهلية للنظر في أقوال العلماء وأدلتهم، ورأى قوة دليل أحدهم واطمأن إليه قلبه فعليه أن يعمل بهذا القول ولا يخالفه.

وأما الفرق بين العلماء والترجيح بينهم بالأعلمية والدين والورع، فهذا يختلف من شخص لآخر، ومن بيئة لبيئة، فقد يتبين للإنسان فضل أحدهم بسبب معاشرته، أو الاطلاع على سيرته، أو كثرة مطالعة كتبه أو اجتماع أهل بلده على تزكيته وتفضيله .. أو غير ذلك من الأسباب، والأمر في هذا واسع، ولا يطالب المرء إلا بما في يتيسر له من أسباب الترجيح، ولا ينبغي لأحد أن يبالغ في هذا الأمر حتى يوقع نفسه في المشقة والحرج، لا سيما إن كان يعاني من الوسوسة، فقد لاحظنا من الأسئلة السابقة للسائل أنه يعاني من ذلك.

وأما السؤال عن العمل بحديث: والإثم ما حاك في صدرك... في المسائل الخلافية، فبداية ننبه على أن هذا الحديث رواه مسلم عن النواس بن سمعان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس.

ورواه أحمد عن وابصة بن معبد مرفوعا بلفظ: والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك.

وأما الجواب: فيتبين من كلام ابن رجب في جامع العلوم والحكم حيث قال: قوله في حديث النواس: الإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس ـ إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجا وضيقا وقلقا واضطرابا، فلم ينشرح له الصدر، ومع هذا فهو عند الناس مستنكر، بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه، وهو ما استنكره الناس على فاعله وغير فاعله، ومن هذا المعنى قول ابن مسعود: ما رآه المؤمنون حسنا، فهو عند الله حسن، وما رآه المومنون قبيحا، فهو عند الله قبيح ـ وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة: وإن أفتاك المفتون ـ يعني: أن ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم، وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم، فهذه مرتبة ثانية، وهو أن يكون الشيء مستنكرا عند فاعله دون غيره، وقد جعله أيضا إثما، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره بالإيمان، وكان المفتي يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي، فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي، فالواجب على المستفتي الرجوع إليه، وإن لم ينشرح له صدره وهذا كالرخصة الشرعية، مثل: الفطر في السفر والمرض، وقصر الصلاة في السفر، ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال، فهذا لا عبرة به، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم فيمتنعون من فعله، فيغضب من ذلك، كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه، وكرهوا مقاضاته لقريش على أن يرجع من عامه، وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم. اهـ.

وقال ابن حزم في الإحكام: معاذ الله أن يكون الحرام والحلال على ما وقع في النفس، والنفوس تختلف أهواؤها، والدين واحد لا اختلاف فيه، قال الله تعالى: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا. اهـ.

فالعبرة في الحلال والحرام بالأدلة الشرعية، فإن لم تتيسر للمرء لا بنفسه ولا بمن يفتيه بمقتضاها، فللمرء حينئذ أن يعمل بهذا الحديث في خاصة نفسه دون أن يفتي به الناس ولا أن يحملهم عليه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات