السؤال
قول ابن تيمية: ( وقد تنازع الناس في مخالف الإجماع, هل يكفر؟ .... إلى آخر النص )
هل يستطيع علماء من الأمة أن يخالفوا الإجماع بدعوى إجماع آخر، علما بأن القضية محسومة بكتاب مجمع عليه من علماء في مجمع الفقه الإسلامي؟
قول ابن تيمية: ( وقد تنازع الناس في مخالف الإجماع, هل يكفر؟ .... إلى آخر النص )
هل يستطيع علماء من الأمة أن يخالفوا الإجماع بدعوى إجماع آخر، علما بأن القضية محسومة بكتاب مجمع عليه من علماء في مجمع الفقه الإسلامي؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد كان ينبغي للسائل أن يوضح لنا القضية المحسومة بكتاب مجمع عليه من علماء في مجمع الفقه الإسلامي حتى تتضح صورة السؤال ويكون الجواب دقيقا، وأما عن تكفير مخالف الإجماع ففيه خلاف، والراجح عدم كفر من خالفه إلا إذا جحد مجمعا عليه فيه نص شائع بين الناس.
فقد قال الزركشي في المنثور: أطلق كثير من أئمتنا القول بتكفير جاحد المجمع عليه . قال النووي: وليس على إطلاقه بل من جحد مجمعا عليه فيه نص وهو من أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص " والعوام " كالصلاة والزكاة ونحوه فهو كافر, ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب وغيره من الحوادث المجمع عليها فليس بكافر . قال : ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف, ونقل الرافعي في باب حد الخمر عن الإمام أنه لم يستحسن إطلاق القول بتكفير مستحل الإجماع. وقال: كيف نكفر من خالف الإجماع ونحن لا نكفر من رد أصل الإجماع, وإنما نبدعه ونضلله, وأول ما ذكره الأصحاب على ما إذا صدق المجمعين على أن التحريم ثابت في الشرع ثم حلله " فإنه " يكون " ردا " للشرع . وقال ابن دقيق العيد: أطلق بعضهم أن مخالف الإجماع يكفر, والحق أن المسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر عن صاحب الشرع كوجوب الخمس وقد لا يصحبها، فالأول يكفر جاحده لمخالفته التواتر لا " لمخالفته " الإجماع , قال : وقد وقع في هذا " الزمان " ممن يدعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظن أن المخالفة " في حدوث " العالم من قبيل مخالفة الإجماع, وأخذ من قول من قال: إنه لا يكفر مخالف الإجماع - أنه لا يكفر المخالف في هذه المسألة . وهذا " الكلام " ساقط بمرة , لأن " حدوث " العالم مما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشرع فيكفر المخالف بسبب مخالفة النقل المتواتر لا بسبب مخالفة الإجماع. اهـ.
وأما حصول إجماع الأمة بعد الإجماع الأول فهو مستحيل، وأما مخالفة البعض من المتأخرين للإجماع الأول - إن ثبت الإجماع الاول - فغير جائز إذا كان الإجماع قطعيا.
قال الغزالي في المستصفى: إذا اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة انعقد الإجماع ووجبت عصمتهم عن الخطأ. وقال قوم: لا بد من انقراض العصر وموت الجميع. وهذا فاسد ; لأن الحجة في اتفاقهم لا في موتهم وقد حصل قبل الموت فلا يزيده الموت تأكيدا, وحجة الإجماع الآية والخبر, وذلك لا يوجب اعتبار العصر . فإن قيل : ما داموا في الأحياء فرجوعهم متوقع وفتواهم غير مستقرة . قلنا : والكلام في رجوعهم فإنا لا نجوز الرجوع من جميعهم ; إذ يكون أحد الإجماعين خطأ وهو محال, أما بعضهم فلا يحل له الرجوع ; لأنه برجوعه خالف إجماع الأمة التي وجبت عصمتها عن الخطأ . نعم يمكن أن يقع الرجوع من بعضهم ويكون به عاصيا فاسقا، والمعصية تجوز على بعض الأمة ولا تجوز على الجميع . فإن قيل : كيف يكون مخالفا للإجماع وبعد ما تم الإجماع, وإنما يتم بانقراض العصر ؟ قلنا: إن عنيتم به أنه لا يسمى إجماعا فهو بهت على اللغة والعرف, وإن عنيتم أن حقيقته لم تتحقق فما حده ؟ وما الإجماع إلا اتفاق فتاويهم, والاتفاق قد حصل وما بعد ذلك استدامة للاتفاق لا إتمام للاتفاق ....اهـ
وفي حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع: ( قوله : وخرقه حرام ) أي من الكبائر للتوعد عليه في الآية, ثم ظاهره شمول القطعي والظني مع أن الظنيات تجوز مخالفتها لدليل، فإما أن يبقى كلامه على عمومه ويراد أن خرقه لغير دليل حرام أو يخص بالقطعي أي وخرق القطعي منه حرام, وقال إمام الحرمين في البرهان: فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر. فهذا باطل قطعا فإن من ينكر أصل الإجماع لا يكفر والقول بالتكفير ليس بالهين. اهـ .
وقال الزركشي في البحر المحيط: المبحث الثاني فيما يعد خرقا للإجماع وما لا يعد وفيه مسائل: المسألة الأولى: هل يجوز أن يجمع على شيء سبق خلافه ؟ وفيه ثلاثة أحوال . إحداها : في انعقاد الإجماع بعد الإجماع على شيء سبق خلافه وفيه مسألتان : إحداهما: أن يكون من المجمعين كما لو أجمع أهل عصر على حكم, ثم ظهر لهم ما يوجب الرجوع, وأجمعوا عليه, ففي جواز الرجوع خلاف مبني على اشتراط انقراض العصر في الإجماع . فمن اعتبره جوز ذلك, ومن لم يعتبره - وهو الراجح - لم يجوزه, وكان إجماعهم الأول حجة عليهم وعلى غيرهم . الثانية: أن يكون من غيرهم, فمنعه الأكثرون أيضا, وإلا لتصادم الإجماعان, وجوزه أبو عبد الله البصري . ... والحاصل: أن نفس كون الإجماع حجة يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف بعده عند الجماهير, وعند البصري لا يقتضي ذلك, لإمكان تصور كونه حجة إلى غاية إمكان حصول إجماع آخر ....اهـ
وجوز بعضهم حصول الإجماع لمصلحة ما ثم تتبدل تلك المصلحة فيحصل إجماع بعد ذلك يخالفه.
فقد قال التفتازاني في التلويح: وذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى في باب الإجماع أن نسخ الإجماع بالإجماع جائز، وكأنه أراد أن الإجماع لا ينعقد البتة بخلاف الكتاب, والسنة, فلا يتصور أن يكون ناسخا لهما, ويتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد إجماع ناسخ له, والجمهور على أنه لا ينسخ, ولا ينسخ به; لأنه لا يكون إلا عن دليل شرعي, ولا يتصور حدوثه بعد النبي عليه السلام, ولا ظهوره لاستلزامه إجماعهم أولا على الخطأ مع لزوم كونه على خلاف النص, وهو غير منعقد . . اهـ
والله أعلم.