السؤال
أنا في بلد عم فيه الفساد، وأكثر الفساد الذي حصل هو القتل لأسباب تافهة، وأهل البلدة يخشون هذا القاتل ولا يجرؤون حتى على طرده لأنه يستطيع الرجوع والانتقام، فهل يجوز قتله لأنه أفسد في هذه البلدة وقد قتل الكثير من أهل البلدة وأخذ أموالا بالغصب وأمور أخرى؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ويؤمنهم ويكف عنهم شر أهل الفساد، وأما إن أراد هذا الشخص الاعتداء عليكم فهو صائل يدفع بالأسهل فالأسهل، ففي منار السبيل لابن ضويان: ومن أريد بأذى في نفسه أو ماله أو حريمه دفعه بالأسهل فالأسهل، فإن اندفع بالأسهل حرم الأصعب، لعدم الحاجة إليه، فإن لم يندفع إلا بالقتل قتله ولا شيء عليه، وإن قتل المصول عليه كان شهيدا، لحديث أبي هريرة: جاء رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار، رواه أحمد ومسلم، وفي لفظ أحمد أنه قال له أولا: أنشده الله، قال: فإن أبى؟ قال: قاتله، وعن ابن عمر مرفوعا: من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد، رواه الخلال بإسناده، وهل يلزمه الدفع على روايتين، قال ابن سيرين: ما أعلم أحدا ترك قتال الحروري واللصوص تأثما إلا أن يجبن، ذكره في الشرح... ويجب أن يدفع عن حريمه كأمه وأخته وزوجته ونحوهن إذا أريدت بفاحشة أو قتل، نص عليه، لأنه يؤدي بذلك حق الله من الكف عن الفاحشة والعدوان وحق نفسه بالمنع عن أهله، فلا يسعه إضاعة الحقين، وحريم غيره لئلا تذهب الأنفس وتستباح الحرم. انتهى.
أما في غير وقت اعتدائه وصولته فلا يقتله إلا السلطان أو نائبه ولا يجوز للإنسان أن يقتص لنفسه، ولا يجوز لعامة الناس أن تقيم الحد على القاتل، بل يرفعون أمره للسلطات، ومن فعل ذلك أثم، لأن الحد يحتاج في إثباته وإقامته إلى اجتهاد وعلم وقدرة وسلطة، وعامة الناس لا يملكون ذلك، ولأن إقامة العامة للحدود يترتب عليها مفاسد عظيمة وإخلال بالأمن، فيعتدي الناس بعضهم على بعض قتلا وتقطيعا بحجة إقامة الحدود، قال القرطبي في تفسيره: لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر الذين فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود. انتهى.
وقال ابن رشد في بداية المجتهد: وأما من يقيم هذا الحد ـ أي: جلد شارب الخمر ـ فاتفقوا على أن الإمام يقيمه وكذلك الأمر في سائر الحدود. انتهى.
وقال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في المجموع: أما الأحكام فإنه متى وجب حد الزنا أو السرقة أو الشرب لم يجز استيفاؤه إلا بأمر الإمام، أو بأمر من فوض إليه الإمام النظر في الأمر بإقامة الحد، لأن الحدود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الخلفاء الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ لم تستوف إلا بإذنهم، ولأن استيفاءها للإمام. ...وروى البيهقي عن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الذين ينتهي إلى قولهم من أهل المدينة كانوا يقولون: لا ينبغي لأحد أن يقيم شيئا من الحدود دون السلطان. انتهى.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية: ولا يقيم الحدود إلا الحاكم المسلم أو من يقوم مقام الحاكم، ولا يجوز لأفراد المسلمين أن يقيموا الحدود لما يلزم على ذلك من الفوضى والفتنة. انتهى.
وفي الموسوعة الفقهية: اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه، وذلك لمصلحة العباد، وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، والإمام قادر على الإقامة لشوكته ومنعته، وانقياد الرعية له قهرا وجبرا، كما أن تهمة الميل والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه، فيقيمها على وجهه فيحصل الغرض المشروع بيقين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود، وكذا خلفاؤه من بعده. اهـ.
وإن لم يكن سلطان فلا يسوغ لجماعة المسلمين إفساح المجال للجناة يفسدون ويقتلون من شاءوا، بل يتعين على جماعة المسلمين البحث عن وسيلة تردع الظلمة، فقد قال الجويني في غياث الأمم: وقد ذكرنا أن الإمامة لا تثبت دون اعتضاد بعدة واستعداد بشوكة ونجدة، فكذلك الكفاية بمجردها من غير اقتدار واستمكان لا أثر لها في إقامة أحكام الإسلام، فإذا شغر الزمان عن كاف مستقل بقوى ومنة فكيف يجري قضايا الولايات وقد بلغ تعذرها منتهى الغايات، فنقول أما ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم ولكن الأدب يقتضي فيه مطالعة ذوي الأمر ومراجعة مرموق العصر كعقد الجمع وجر العساكر إلى الجهاد واستيفاء القصاص في النفس والطرف فيتولاه الناس عند خلو الدهر، ولو سعى عند شغور الزمان طوائف من ذوي النجدة والبأس في نقض الطرق والسعاية في الأرض بالفساد فهم من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما ينهى آحاد الناس عن شهر الأسلحة استبدادا إذا كان في الزمان وزر قوام على أهل الإسلام، فإذا خلى الزمان عن السلطان وجب البدار على حسب الإمكان إلى درء البوائق عن أهل الإيمان ونهينا الرعايا عن الاستقلال بالأنفس من قبيل الاستحثاث على ما هو الأقرب إلى الصلاح والأدنى إلى النجاح، فإن ما يتولاه السلطان من أمور السياسة أوقع وأنجح وأدفع للتنافس وأجمع لشتات الرأي في تمليك الرعايا أمور الدماء وشهر الأسلحة وجوه من الخبل لا ينكره ذووا العقل، وإذا لم يصادف الناس قواما بأمورهم يلوذون به فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عم الفساد البلاد والعباد، وإذا أمروا بالتقاعد في قيام السلطان كفاهم ذو الأمر المهمات وأتاها على أقرب الجهات، وقد قال العلماء لو خلى الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلده وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحالم والنهى وذوي العقول والحجى من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره وينتهون عن مناهيه ومزاجره فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ترددوا عند إلمام المهمات وتبلدوا عند إظلال الواقعات، ولو انتدب جماعة في قيام الإمام للغزوات وأوغلوا في مواطن المخافات تعين عليهم أن ينصبوا من يرجعون إلى رأيه، إذ لو لم يفعلوا ذلك تهووا في ورطات المخافات ولم يستمروا في شيء من الحالات... اهـ.
والله أعلم.