الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمد في الهم بالنهي على اجتهاده، وعلى ما هو شائع عند العرب من الضرر، ولم يعتمد على الوحي في ذلك، وأنه لما نظر في حال الأمم الأخرى كفارس والروم وعلم أنه لم يضرهم -في الغالب- رخص في وطء المرضع، لما في منعه من الضرر بمن ليس عنده إلا زوجة واحدة، وقيل: إنه جزم بالنهي في حديث أسماء لما علم من الضرر الذي قد لا يظهر إلا بعد الكبر، كذا قال السندي، وقيل: إن هذا الحديث ضعيف ولا يعارض الترخيص الثابت في الأحاديث الأخرى، كذا قال العباد، وقد ضعف الحديث الأرناؤوط في تحقيقه للمسند، واختلف كلام الألباني فيه فضعفه في غاية المرام وأحال على تضعيفه فيه لما حقق سنن أبي داود وابن ماجه وضعف الحديث فيهما، ولكنه حسنه في صحيح الجامع. وقيل: إن النهي للتنزيه، كذا قال ابن القيم، ولو أن امرأة استغنت عن إرضاع ابنها بتغذيته أو رضاعته بالحليب الصناعي فإن ذلك مباح لها، ولا سيما إذا أرادت تفادي الضرر المحتمل.
وأما عن كلام العلماء في هذا: فقد قال الباجي في المنتقى: قوله صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ـ يدل على أنه قد كان يقضي ويأمر وينهى بما يؤديه إليه اجتهاده دون أن ينزل عليه شيء, ولذلك هم أن ينهى عن الغيلة لما خاف من فساد أجساد أمته وضعف قوتهم من أجلها حتى ذكر أن فارس والروم تفعل ذلك فلا يضر أولادهم ذلك يحتمل أن يريد صلى الله عليه وسلم أنه لا يريد أن يضر ضررا عاما, وإنما يضر في النادر فلذلك لم ينه عنه ولم يحرمه رفقا بالناس، لما في ذلك من المشقة على من له زوجة واحدة فيمتنع من وطئها مدة فتلحقه بذلك المشقة، وهذه مشقة عامة فكانت مراعاتها أرفق بأمته من المشقة الخاصة التي لا تلحق إلا اليسير من الأطفال. اهـ.
وقال الزرقاني في شرح الموطأ: فلا يضر أولادهم ذلك شيئا يعني لو كان الجماع حال الرضاع أو الإرضاع حال الحمل مضرا لضر أولاد الروم وفارس، لأنهم يصنعون ذلك مع كثرة الأطباء فيهم، فلو كان مضرا لمنعوهم منه فحينئذ لا أنهى عنه، قال عياض: ففيه جوازه إذ لم ينه عنه، لأنه رأى الجمهور لا يضره وإن أضر بالقليل، لأن الماء يكثر اللبن وقد يغيره، والأطباء يقولون في ذلك اللبن إنه داء والعرب تتقيه، ولأنه قد يكون عنه حمل ولا يعرف فيرجع إلى إرضاع الحامل المتفق على مضرته، وأخذ الجواز أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم أن رجلا قال: إني أعزل عن امرأتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تفعل ذلك؟ فقال: أشفق على ولدها أو على أولادها، فقال: لو كان ذلك ضارا ضر فارس والروم، وقال الباجي: لعل الغيلة إنما تضر في النادر فلذا لم ينه عنها رفقا بالناس للمشقة على من له زوجة واحدة، قال عياض: وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في الأحكام واختلف الأصوليون فيه، قال الأبي: ووجه الاجتهاد أنه لما علم برأي أو استفاضة أنه لا يضر فارس والروم قاس العرب عليهم للاشتراك في الحقيقة.... اهـ.
وقال ابن القيم: أشكل الجمع بين هذه الأحاديث على غير واحد من أهل العلم فقالت طائفة قوله: لقد هممت أن أنهى عن الغيل ـ أي أحرمه وأمنع منه، فلا تنافي بين هذا وبين قوله في الحديث الآخر: ولا تقتلوا أولادكم سرا ـ فإن هذا النهي كالمشورة عليهم والإرشاد لهم إلى ترك ما يضعف الولد ويقتله، قالوا: والدليل عليه أن المرأة المرضع إذا باشرها الرجل حرك منها دم الطمث وأهاجه للخروج فلا يبقى اللبن حينئذ على اعتداله وطيب رائحته، وربما حبلت الموطوءة فكان ذلك من شر الأمور وأضرها على الرضيع المغتذي بلبنها، وذلك أن جيد الدم حينئذ ينصرف في تغذية الجنين الذي في الرحم فينفذ في غذائه، فإن الجنين لما كان ما يناله ويجتذبه مما لا يحتاج إليه ملائما له، لأنه متصل بأمه اتصال الغرس بالأرض وهو غير مفارق لها ليلا ولا نهارا، وكذلك ينقص دم الحامل ويصير رديئا فيصير اللبن المجتمع في ثديها يسيرا رديئا، فمتى حملت المرضع فمن تمام تدبير الطفل أن يمنع منها فإنه متى شرب من ذلك اللبن الرديء قتله أو أثر في ضعفه تأثيرا يجده في كبره فيدعثره عن فرسه، فهذا وجه المشورة عليهم والإرشاد إلى تركه ولم يحرمه عليهم، فإن هذا لا يقع دائما لكل مولود وإن عرض لبعض الأطفال، فأكثر الناس يجامعون نساءهم وهن يرضعن ولو كان هذا الضرر لازما لكل مولود لاشترك فيه أكثر الناس، وهاتان الأمتان الكبيرتان فارس والروم تفعله ولا يعم ضرره أولادهم. وعلى كل حال، فالأحوط إذا حبلت المرضع أن يمنع منها الطفل ويلتمس مرضعا غيرها. والله أعلم. اهـ.
وقال في الزاد: وقد يقال: إن قوله: لا تقتلوا أولادكم سرا ـ نهى أن يتسبب إلى ذلك، فإنه شبه الغيل بقتل الولد، وليس بقتل حقيقة، وإلا كان من الكبائر، وكان قرين الإشراك بالله، ولا ريب أن وطء المراضع مما تعم به البلوى، ويتعذر على الرجل الصبر عن امرأته مدة الرضاع ولو كان وطؤهن حراما لكان معلوما من الدين، وكان بيانه من أهم الأمور، ولم تهمله الأمة وخير القرون، ولا يصرح أحد منهم بتحريمه، فعلم أن حديث أسماء على وجه الإرشاد والاحتياط للولد، وأن لا يعرضه لفساد اللبن بالحمل الطارئ عليه، ولهذا كان عادة العرب أن يسترضعوا لأولادهم غير أمهاتهم، والمنع غايته أن يكون من باب سد الذرائع التي قد تفضي إلى الإضرار بالولد، وقاعدة باب سد الذرائع إذا عارضه مصلحة راجحة، قدمت عليه، كما تقدم بيانه مرارا. والله أعلم. اهـ.
وقال المناوي: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة .... حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك أي يجامعون المرضع والحامل فلا يضر أولادهم، يعني لو كان الجماع أو الإرضاع حال الحمل مضرا لضر أولاد الروم وفارس، لأنهم يفعلونه مع كثرة الأطباء فيهم فلو كان مضرا لمنعوه منه، فحينئذ لا أنهى عنه..... اهـ.
وقال المباركفوي في شرح سنن الترمذي: وفي حديث جدامة هذا دليل على جواز الغيلة، وحديث أسماء بنت يزيد المذكور يدل على المنع، واختلف العلماء في وجه الجمع بينهما، فقال الطيبي: نفيه لأثر الغيل في الحديث السابق يعني حديث جدامة كان إبطالا لاعتقاد الجاهلية كونه مؤثرا، وإثباته له هنا يعني في حديث أسماء لأنه سبب في الجملة مع كون المؤثر الحقيقي هو الله تعالى، وقيل النهي في قوله: لا تقتلوا أولادكم سرا ـ في حديث أسماء للتنزيه، ويحمل قوله: لقد هممت أن أنهى في حديث جدامة على التحريم فلا منافاة، وقال السندي: حديث أسماء يحتمل أنه قال على زعم العرب قبل حديث جدامة ثم علم أنه لا يضر فأذن به، كما في رواية جدامة، وهذا بعيد، لأن مفاد حديث جدامة أنه أراد النهي ولم ينه، وحديث أسماء فيه نهي، فكيف يكون حديث أسماء قبل حديث جدامة؟ وأيضا لو كان على زعم العرب لما استحسن القسم بالله كما عند ابن ماجه، فالأقرب أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه بعد حديث جدامة حيث حقق أنه لا يضر؛ إلا أن الضرر قد يخفى إلى الكبر. انتهى.
وقال الشيخ عبد المحسن العباد في شرح سنن أبي داود: لا تقتلوا أولادكم سرا ـ وهذا ليس قتلا مباشرا، ولكنه يؤدي إلى الضعف والهزال، بسبب شربه هذا اللبن الذي حصل معه الحمل فيتغير ولم يعد صالحا للشرب، فهو يؤثر على صحة الولد حتى بعد أن يكبر ويركب الفرس، فإن الغيل يؤدي إلى ضعفه وسقوطه، ولكن هذا الحديث ليس بصحيح، وقد جاء ما يدل على جواز الغيل وأنه سائغ، ولكن إذا وجد الحمل فإنه يترك الرضاع، لأنه يؤدي إلى ضرر الطفل، فيجوز أن تجامع المرضع، وإن حصل حمل فإنها تترك الإرضاع، لأنه يضر الطفل، ويرضع بلبن آخر غير هذا اللبن الذي ينشأ عنه الضرر، والنساء تعرف هذا بالتجربة، ولهذا عندما تحمل المرأة تبادر إلى الامتناع عن إرضاع الطفل من ذلك اللبن الذي جاء معه الحمل. اهـ.
وأما عن أقل مدة الرضاع: فلا نعلم حدا للشرع فيه، وإنما يرجع فيه لتشاور الأبوين، فإذا رأيا المصلحة في فطام الولد قبل الحولين فلهما ذلك، لقوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما {البقرة:233}.
جاء في تفسير ابن كثير: فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤخذ منه: أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحه ويصلحهما، كما قال في سورة الطلاق: فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى { الطلاق:6} انتهى.
وقال ابن العربي في أحكام القرآن عند كلامه على الآية المذكورة: والصحيح أنه لا حد لأقله، وأكثره محدود بحولين مع التراضي بنص القرآن. انتهى.
وأما عن كلام الأطباء في الموضوع فنرجو منك أن تراجعي فيه قسم الاستشارات الطبية بالموقع أو بعض المختصين في الأمور الطبية.
والله أعلم.