مخالطة الناس في الخير واعتزالهم في الشر وما لا فائدة فيه

0 485

السؤال

ما هي الحالات التي تجوز فيها الغيبة؟ علما أنني انعزلت عن الناس - حتى عن الأسرة في البيت - وتركت الكلام والسمر معهم, وكذا الحال مع الأقارب والجيران والزملاء في المدرسة المتوسطة؛ بحجة اجتناب الغيبة وسماعها, أضف إلى ذلك انشغالي بالمقررات المدرسية, وحفظ القرآن, وقد بدأ معي هذا التوجه منذ سن الـ 13 سنة عندما كنت مقيما في السعودية, واتبعت منهج السلفيين, وعدت لبلدي السودان وعمري 16 سنة, وعندما أصبح عمري 18سنة - بعد تخرجي من المرحلة الثانوية - أدركت أن هناك شيئا ليس على ما يرام, وأنني قد فاتني الكثير من أمور الحياة التي يعرفها الأطفال ولا أعرفها أنا, وأنني لا أجيد الكلام - خاصة مع الغرباء - وداخلني الشك في أنني مسحور أو ممسوس من الجن, وقد بدأت الكلام مع الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران وأهل الحي, لكنني لست مرتاحا لما أفعل, فأفتوني فقد كثرت علي الهواجس.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فإن حضورك لمجالس الأقارب والجيران وغيرهم إن كان فيه خير وتعاون على المعروف وتناصح بينكم: فالأولى الحرص على حضورها، خصوصا إن كانت مع الأقارب لما فيها من صلة الرحم، أو كانت مع الجيران لما فيها من حسن الجوار.

وأما إن كانت المجالس فيها معصية من المعاصي - كالغيبة والنميمة -: فعليك إنكارها إن استطعت، وإلا فعليك حينئذ مفارقتها ومغادرتها - إن أمكنك ذلك - قال النووي في رياض الصالحين: باب تحريم سماع الغيبة, وأمر من سمع غيبة محرمة بردها, والإنكار على قائلها, فإن عجز أو لم يقبل منه فارق ذلك المجلس إن أمكنه. انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين: الواجب على الإنسان إذا سمع من يغتاب أحدا أن يكف غيبته, وأن يسعى في إسكاته، إما بالقوة إذا كان قادرا, كأن يقول: اسكت، اتق الله، خف الله, وإما بالنصيحة المؤثرة، فإن لم يفعل فإنه يقوم ويترك المكان؛ لأن الإنسان إذا جلس في مجلس يغتاب فيه الجالسون أهل الخير والصلاح، فإنه يجب عليه أولا أن يدافع، فإن لم يستطع فعليه أن يغادر, وإلا كان شريكا لهم في الإثم. انتهى.

ولتعلم أن الاقتصاد في خلطة الناس والتوسط في ذلك خير من اعتزالهم مطلقا. قال النووي - رحمه الله - عند قوله صلى الله عليه وسلم: ثم مؤمن في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره.
فيه: دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط ، وفي ذلك خلاف مشهور، فمذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف: أن الاعتزال أفضل، وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه، ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص، وقد كانت الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين، فيحصلون منافع الاختلاط, كشهود الجمعة, والجماعة, والجنائز, وعيادة المرضى, وحلق الذكر, وغير ذلك, وأما (الشعب): فهو انفراج بين جبلين، وليس المراد نفس الشعب خصوصا؛ بل المراد الانفراد والاعتزال، وذكر الشعب مثالا لأنه خال عن الناس غالبا, وهذا الحديث نحو الحديث الآخر حين سئل صلى الله عليه وسلم عن النجاة فقال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك". انتهى.

وقد بين الخطابي الطريقة المثلى في الخلطة والعزلة فقال - رحمه الله -: والطريقة المثلى في هذا الباب أن لا تمتنع من حق يلزمك للناس, وإن لم يطالبوك به, وأن لا تنهمك لهم في باطل لا يجب عليك, وإن دعوك إليه, فإن من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه, ومن انحل في الباطل جمد عن الحق، فكن مع الناس في الخير, وكن بمعزل عنهم في الشر, وتوخ أن تكون فيهم شاهدا كغائب, وعالما كجاهل, ثم ذكر عن أكثم بن صيفي قوله: الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة, ومعرفتهم مكسبة لقرين السوء: فكن للناس بين المنقبض والمقارب، فإن خير الأمور أوساطها. انتهى.

فإذا تبينت لك هذه الضوابط في حضور المجالس من عدمها، وفي الخلطة والعزلة، تبين لك أن كثرة الوساوس والهواجس إنما هي من وحي الشيطان؛ ليضعف قلب المؤمن, ويصده عن كل خير، فلا تلتفت إليها، ولا عاصم من ذلك إلا من رحمه الله, وللفائدة يرجى مراجعة هذه الفتوى: 158317.

وأما الحالات التي تجوز فيها الغيبة فقد ذكرها غير واحد من العلماء منهم النووي - رحمه الله -، حيث حصرها في ستة أسباب، وهي: التظلم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، وتحذير المسلمين من الشر، والمشاورة، ومن جاهر بفسقه، والتعريف, وقد ذكرت مفصلة بأدلتها في هذه الفتوى فراجعها: 150463.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة