السؤال
إذا كان الدين واضحا، فلم يصعب الترجيح في مسألة: هل البسملة فرض في الصلاة أم لا؟ لم تستطيعوا أنتم. هل نقدر دائما أن نرجح بين الأقوال؟
هل بقيت بعض الأحاديث أو الآيات لم يستطع أحد أن يحل الإشكال فيها (أهي ناسخة أو منسوخة إلى آخره)؟
إذا كان الدين واضحا، فلم يصعب الترجيح في مسألة: هل البسملة فرض في الصلاة أم لا؟ لم تستطيعوا أنتم. هل نقدر دائما أن نرجح بين الأقوال؟
هل بقيت بعض الأحاديث أو الآيات لم يستطع أحد أن يحل الإشكال فيها (أهي ناسخة أو منسوخة إلى آخره)؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالدين بحمد الله واضح، من حيث إن أصوله التي يحتاج إليها الناس كلهم قد قامت عليها الدلائل القطعية، ولا يلزم من هذا أن تكون كل مسألة من مسائل الدين واضحة لكل أحد، بل قد اقتضت حكمة الله تعالى أن يجعل بعض مسائل الشرع محل اجتهاد وخلاف سائغ بين العلماء، فلا تكون النصوص فيها قطعية واضحة وضوحها في غيرها مما لا يسوغ فيه الخلاف، وذلك ليتنافس الناس في طلب العلم، وتكثر أجورهم بذلك، ويعظم تقربهم إلى الله تعالى باجتهادهم في فهم الشرع والاستنباط من النصوص، وفيه أيضا رحمة عظيمة بالعلماء والعامة. فإذا أدى المجتهد اجتهاده إلى قول كان معذورا عند الله، مأجورا إما أجرا إن أخطأ، وإما أجرين إن أصاب، والعامي الذي ليس أهلا للاجتهاد يقلد من يثق به من المجتهدين وقد برئت ذمته بذلك.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم؛ ولهذا صنف رجل كتابا سماه " كتاب الاختلاف " فقال أحمد: سمه " كتاب السعة " وإن الحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه، لما في ظهوره من الشدة عليه، ويكون من باب قوله تعالى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. انتهى.
وقال أيضا رحمه الله: ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه. ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه. انتهى.
فإذا علمت هذا، فإن الخلاف في البسملة هل هي آية من الفاتحة أو لا؟ هو من هذا النوع من الخلاف، فمن ظهر له رجحان أحد الأقوال عمل به، والعامي يقلد من يثق به في هذه المسألة وغيرها، وانظر لما يفعله العامي إذا اختلفت عليه الفتوى فتوانا رقم: 120640، ولتفصيل القول في مسألة البسملة وما نرجحه فيها انظر الفتوى رقم: 36312، والترجيح بين الأقوال هو وظيفة أهل العلم، فمن كان متأهلا لذلك لاكتمال آلته، وتوفر شرط الاجتهاد فيه، فله أن يرجح من الأقوال ما يظهر له قوته، وقد تخفى بعض المسائل على بعض المجتهدين فلا يستطيع الترجيح فيها فيتوقف، وأما أن يخفى الحق على جميع علماء الأمة فلا؛ لأنهم لا يجتمعون على ضلالة كما مر بك من كلام شيخ الإسلام من أن اجتماعهم حجة قاطعة، ومن ثم فلا بد أن يوجد في الأمة قائل بالحق مبين لحكم الله تعالى.
قال الزركشي: إنهم -يعني المجتهدين- لا يجمعون على الخطأ، ولا يجوز أن يقال: إنهم اجتهدوا فلم يؤد اجتهادهم إلى شيء يجب اعتقاده؛ لأنه يؤدي إلى خفاء الحق على جميع الأمة، وهو محال. انتهى.
فإذا علمت أن خفاء الحق على جميع الأمة محال، تبين لك أنه لا توجد آية يخفى على جميع العلماء أهي ناسخة أو منسوخة، ولا حديث يخفى على جميع العلماء أهو ناسخ أو منسوخ، وإن كان ذلك قد يخفى على البعض بحسب ما آتاه الله من العلم والفهم.
والله أعلم.