السؤال
ذكر في كتاب تاريخ الطبري واقعة أن سيدنا عمر بن الخطاب قال لسيدنا عمرو بن العاص: أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها ـ وذلك وقت مجاعة الرمادة، المصدر: http://islamport.com/w/tkh/Web/2893/1072.htm
فما صحة هذه الواقعة؟ وإن كانت صحيحة فما الفرق بين ممارسات الرومان في مصر من فرض الضرائب الباهظة ونقل خراج مصر إلى روما، وما فعله المسلمون ودلالة هذه المقولة، وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فحاصل هذه القصة ما هو إلا مثال لتحمل الراعي لمسئولية رعيته، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في ذلك هو مضرب المثل، فقد كان من العدل وحفظ الأمانة بمكان، وإذا كان الحال كذلك، وحدثت مجاعة في بلد من بلدان الدولة الإسلامية، فلا يسع خليفة المسلمين إلا أن يأخذ ما يزيد عن حاجة الناس في موضع، ليشبع به جوع ذوي الحاجة في موضع المجاعة، وإن لم يفعل ذلك فقد ضيع الأمانة وظلم الرعية، ولم يؤد حق الله في هذه المسئولية!! وحاشا أمير المؤمنين عمر أن يفعل ذلك، فهذه هي حقيقة هذه القصة باختصار، ففي عام الرمادة عندما اشتد الحال بأهل المدينة وما حولها أرسل عمر ـ رضي الله عنه ـ لأهل الأمصار يستغيثهم ويستمدهم من مصر والشام والعراق، قال الدكتور عبد السلام آل عيسى في رسالته العلمية دراسة نقدية في المرويات الواردة في شخصية عمر بن الخطاب وسياسته الإدارية: قد رويت آثار كثيرة تشير إلى ما أصاب الناس من الجهد والمشقة في هذا العام وأنهم أكلوا الجرابيع والجرذان من الجوع، وأن الموت انتشر فيهم، وأن عمر رضي الله كتب إلى عمرو بن العاص بمصر، وسعد بن أبي وقاص بالكوفة، وأبي موسى الأشعري بالبصرة، ومعاوية بن أبي سفيان بالشام، يطلب منهم أن يمدوه بالأطعمة والأكسية، وهذه الآثار لا تخلو من ضعف ولكن ما ورد فيها لا يستبعد وقوعه خصوصا وأن أرض الجزيرة العربية وخاصة البوادي حول المدينة أرض قليلة الماء والكلأ والعشب، فإن انقطع عنها المطر أصبحت الحياة فيها منعدمة لعدم وجود الماء الذي هو عصب الحياة للإنسان والحيوان والنبات، حيث لا توجد أنهار ولا مصادر أخرى للمياه فتجف الأرض ويموت الزرع وتهلك الماشية فيضطر الإنسان لأكل ما يحيا به، ولا مانع أن يكون عمر رضي الله عنه كتب إلى أمرائه في العراق والشام ومصر يطلب منهم إمداد المسلمين بالأرزاق، بل إن هذا هو الذي لا يتصور غيره منه رضي الله عنه لشدة اهتمامه وحرصه على رعيته، وقد ثبت ـ كما تقدم ـ أنه اجتهد في إمداد الناس من الأرياف ومما روي عن عمر رضي الله عنه في مواساته لرعيته أنه قال: إذا كنت في منزلة تسعني، وتعجز عن الناس فوالله ما تلك لي بمنزلة حتى أكون أسوة الناس. اهـ.
ثم إن عمر رضي الله عنه شرع بعد ذلك في إيجاد أيسر طريق لإيصال الميرة من مصر إلى الحجاز، وذلك بحفر نهر يصل النيل بالبحر الأحمر ليكون حمل المؤن عن طريق السفن بدل الجمال، فذلك أخف وأيسر وأسرع، وقد عقد ابن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر فصلا لذكر حفر هذا المجرى الملاحي، وأورد فيه عدة روايات بسياقات متعددة، وفي بعضها ما نصه:فقال عمر: يا عمرو، إن الله قد فتح على المسلمين مصر، وهي كثيرة الخير والطعام، وقد ألقى في روعي ـ لما أحببت من الرفق بأهل الحرمين، والتوسعة عليهم حين فتح الله عليهم مصر وجعلها قوة لهم ولجميع المسلمين ـ أن أحفر خليجا من نيلها حتى يسيل في البحر، فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة، فإن حمله على الظهر يبعد ولا نبلغ منه ما نريد. اهـ.
ثم إن عمرو بن العاص رضي الله عنه ـ إن صحت هذه الروايات ـ أراد أن يعتذر لأمير المؤمنين عمر عن ذلك، لكون هذا الحفر يستهلك خراج مصر، فكتب إليه عمر بما نقله السائل في سؤاله، ولفظه: عند ابن الجوزي في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: أخرب الله خراج مصر في عمران المدينة وصلاحها. اهـ.
وكذلك جاء النص في المسالك والممالك للبكري، وهذا واضح في أن مراد عمر ليس خراب مصر واستهلاك خيراتها وإنما أراد استهلاك خراجها، والخراج بالمعنى العام هو: الأموال التي تتولى الدولة جبايتها وصرفها في مصارفها، وهو بالمعنى الخاص: الضريبة التي يفرضها إمام المسلمين على الأرض الخراجية النامية، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 6032.
وهذا بالمصطلحات المعاصرة يتناول ميزانية الدولة، ولا علاقة له بالأفراد، فإن هذا الخراج يجبى على أية حال، ولم يزد فيه عمر لأجل حفر هذا النهر، وإنما أمر بإنفاق هذا المال العام أو بعضه في إنشاء هذا المجرى الملاحي المهم والنافع والذي ترتب عليه نقص سعر الطعام بالحجاز دون أن يضر أهل مصر، ولذلك جاء في نهاية هذه القصة عند الطبري نفسه: فكان سعر المدينة كسعر مصر، ولم يزد ذلك مصر إلا رخاء. اهـ.
ومن تأمل ذلك أدرك أن هذه الأمر الحكيم من عمر رضي الله عنه لواليه على مصر يعتبر من أمثلة السياسة الشرعية الواعية التي تقوم على جلب المصالح للرعية ودرء المفاسد عنها!! وأمر آخر لابد من لفت النظر إليه، وهو حال عمر رضي الله عنه كخليفة للمسلمين عندما حلت بأهل الحجاز هذه المجاعة في عام الرمادة، وأمر ولاته على الأمصار بإمدادهم بالميرة، فقد واسى المصابين بنفسه وضيق عليها أشد التضييق، كما سبقت الإشارة إليه، وقد جاء في تاريخ الطبري بنفس إسناد القصة التي نقل السائل بعضها: فآلى عمر ألا يذوق سمنا ولا لبنا ولا لحما حتى يحيى الناس من أول الحيا، فكان بذلك حتى أحيا الناس من أول الحيا، فقدمت السوق عكة من سمن ووطب من لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبر الله يمينك وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن، فابتعتهما بأربعين، فقال عمر: أغليت بهما، فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافا، وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما مسهم. اهـ.
وقال ابن الجوزي في المنتظم: كان عمر إذا بلغه عن ناحية من نواحي المسلمين غلاء حط نفسه على قدر ما يبلغه ويقول: كيف يكونون مني على بال إذا لم يمسسني ما مسهم، وإنه غلظ على نفسه وأقبل على خبز الشعير فقرقر في بطنه يوما، فقال: هو ما ترى حتى يحيى أهل مدينة. اهـ.
فهل من العدل والإنصاف أن يشبه من هذه حاله بحال الأقاصرة والأباطرة؟؟!! سبحانك هذا بهتان عظيم، ولا يمكن أن يقول ذلك من يعرف حال الخلفاء الراشدين وحال القياصرة المحتلين، قال الفيلسوف الأمريكي ديورانت (Durant) في كتابه قصة الحضارة: لم تكن روما تعد مصر ولاية تابعة لها، بل كانت تعدها من أملاك الامبراطور نفسه!... ولم تبذل محاولة ما لتحضير السكان، فقد كانت وظيفة مصر في الامبراطورية أن تكون المورد الذي تستمد منه روما ما يلزمها من الحبوب، ولهذا السبب انتزعت من الكهنة مساحات واسعة من الأرض وأعطيت للممولين الرومان أو الاسكندريين وجعلت ضياعا واسعة يعمل فيها الفلاحون ويستغلون بلا رحمة... فكان موظفون حكوميون مطردو الزيادة يعينون ما يزرع من المحاصيل، ومقدار ما يزرع منها، ويوزعون البذور على الزراع في كل عام، ويستولون على المحصولات ويودعونها في مخازن حكومية ( thesauroi)ويصدرون منها حصة روما، ويقتطعون الضرائب منها عينا. اهـ.
وقال الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد: كانت دولتا العالم دولة الفرس في الشرق ودولة الرومان في الغرب في تنازع وتجالد مستمر دماء بين العالمين مسفوكة وقوى منهوكة وأموال هالكة وظلم من الأحن حالكة، ومع ذلك فقد كان الزهو والترف والإسراف والفخفخة والتفنن في الملاذ بالغة حد ما لا يوصف في قصور السلاطين والأمراء والقواد ورؤساء الأديان من كل أمة، وكان شره هذه الطبقة من الأمم لا يقف عند حد، فزادوا في الضرائب وبالغوا في فرض الأتاوات حتى أثقلوا ظهور الرعية بمطالبهم وأتوا على ما في أيديها من ثمرات أعمالها وانحصر سلطان القوى في اختطاف ما بيد الضعيف وفكر العاقل في الاحتيال لسلب الغافل وتبع ذلك أن استولى على تلك الشعوب ضروب من الفقر والذل والاستكانة والخوف والاضطراب لفقد الأمن على الأرواح والأموال. اهـ.
ونقل الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين عن الدكتور الفرد. ج. بتلر في كتابه فتح العرب لمصر قوله: إن حكومة مصر الرومية لم يكن لها إلا غرض واحد، وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين ولم يساورها أن تجعل قصد الحكم توفير الرفاهية للرعية أو ترقية حال الناس والعلو بهم في الحياة أو تهذيب نفوسهم أو إصلاح أمور أرزاقهم، فكان الحكم على ذلك حكم الغرباء لا يعتمد إلا على القوة ولا يحس بشيء من العطف على الشعب المحكوم. اهـ.
وجاء في الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي: لم تختلف سياسة البيزنطيين عن سابقيهم ـ يعني الرومان ـ ففرضوا الضرائب، وتعسفوا في جمعها، وانصرفت جهود حكامهم إلى جمع الأموال بكل السبل، فأدى ذلك إلى تخلي المزارعين عن أراضيهم، واضطر التجار إلى إغلاق متاجرهم، واتجه كثير من الناس إلى السلب والنهب. اهـ.
والله أعلم.