الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى لنا ولك التوفيق والسداد والرشاد، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل، وأما ما ذكرت الأخت السائلة، فنحن نرضى أن ننطلق في جوابه من قولها: هذه الأمور الغيبية لا يجوز الخوض فيها إلا بنص صريح ـ ونعم ما قالت، فهذه هي القاعدة التي من خالفها زل أو ضل، ونعوذ بالله من الخذلان، ولتفصيل ذلك نقول:
ـ أولا: نحن لم ندع أن الله تعالى ميز الرجل وكرمه عن المرأة لمجرد أنه رجل، كما تزعم الأخت السائلة ـ وفقها الله ـ بل نحن نتفق معها على أن ميزان التفاضل في درجات الجنة ليس بالذكورة، وإنما بالتقوى، كما قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم { الحجرات: 13}.
وقد أشار القرآن في عدة مواضع إلى العدل بين الجنسين في جزاء الآخرة، قال تعالى: فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض {آل عمران: 195}.
وقال سبحانه: ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا {النساء: 124}.
وقال عز وجل: ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب {غافر: 40}.
وقال تبارك وتعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون {النحل: 97}.
وقد سبق أن عرجنا على هذا المعنى في كثير من فتاوانا السابقة، ومنها الفتاوى التالية أرقامها: 63944، 106951، 140697.
ـ ثانيا: ليس هناك تعارض بين هذا الأصل المقرر، وبين وجود بعض صور الاختلاف بين الرجال والنساء في كيفية التنعم في الجنة، فالمهم أن يتساوى الجميع في تمام المتعة واللذة، وكمال النعيم والنعمة، وحصول الرضا والفرحة، فهذا مكفول للجميع، ولكنه يختلف باعتبار ما يتناسب مع طبيعة الرجل والمرأة، بل إنه يختلف من شخص إلى شخص، فالأماني تتفاوت وتتباين وتتعدد، وإلى هذا يشير ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يوما يحدث وعنده رجل من أهل البادية: أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: أولست فيما شئت؟ قال: بلى ولكني أحب أن أزرع، فأسرع وبذر فتبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال! فيقول الله تعالى: دونك يا ابن آدم فإنه لا يشبعك شيء، فقال الأعرابي: يا رسول الله، لا تجد هذا إلا قرشيا أو أنصاريا، فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري.
والمقصود أن إمتاع كل جنس أو كل شخص بما يناسب حاله ليس بأمر مستغرب!! بل هذا مظهر من مظاهر كمال النعيم في الجنة، فإذا رجعنا لدلالة القرآن في مسألة الفرق بين متعة المرأة ومتعة الرجل كلاهما بالآخر، فسنجد قوله تعالى: ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون {البقرة: 25}.
ومن صور هذا الطهر: طهر النظر والخاطر من التطلع إلى غير الزوج، قال ابن القيم في حادي الأرواح: المطهرة من طهرت من الحيض والبول والنفاس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر وكل أذى يكون من نساء الدنيا، فطهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها.. اهـ.
وهذا الوصف عام في زوجات الجنة، سواء من نساء الدنيا، أو من الحور العين، وبه يظهر خطأ السائلة حينما ادعت أن قوله تعالى: وعندهم قاصرات الطرف أتراب {ص: 52}. إنما هو وصف للحور العين دون نساء الدنيا، فأين هذا من لفظ الآية وسياقها وعمومها؟ وأين هو مما سبق الاتفاق عليه من أن هذه الأمور الغيبية لا يجوز الخوض فيها إلا بنص صريح؟! ثم إن هذا إن كان مدحا للحور العين، فلماذا تحرم منه المؤمنات من نساء الدنيا؟! قال ابن القيم: والمفسرون كلهم على أن المعنى قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يطمحن إلى غيرهم. اهـ.
وراجعي لمزيد الفائدة عن ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 60075، 165781، 61352.
ـ ثالثا: قول السائلة: قال تعالى: لهم فيها ما يشتهون... وليس ما ستشتهون، أى ما أشتهيه الآن في دنياي، وما سأشتهيه مستقبلا عند دخولي الجنة، كل هذا سأجده!!! في الحقيقة أن هذه الدعوى مما يطول منه العجب، وبداية نقول: ليس في القرآن آية بهذا النص، بل فيه قوله تعالى: لهم فيها ما يشاءون {النحل: 31} و{الفرقان: 16}.
وأما التعبير بالاشتهاء فجاء في نصوص أخرى، كقوله تعالى: ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم { فصلت: 31}.
وقوله سبحانه: وفيها ما تشتهيه الأنفس {الزخرف: 71}.
وقوله عز وجل: وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون {الأنبياء: 102}.
ثم إن هذا الذي ذهبت إلية السائلة من هذا التعميم الغريب، يكفي في إبطاله ما جاءنا قبل ذلك من أسئلة بعض المسلمين عن إمكانية حصول اللواط في الجنة بالنسبة لمن يشتهون ذلك في الدنيا!! فهل سيكون جواب السائلة ـ بناء على ما قررته ـ بنعم ؟؟!!! وإن افترضنا أنها ستجيب بذلك ـ وحاشاها ـ فنحن نسألها: ماذا لو تمنى شخص أن يتزوج بإحدى أمهات المؤمنين في الجنة؟! وماذا لو تمنى عدة أشخاص الزواج بامرأة معينة في الدنيا، لمن ستكون هذه المرأة، هل ستكون لأحدهم فيحرم الباقون مما اشتهوا، أم ستكون لجميعهم على طريقة الشيوع في النساء؟؟!! ثم إن اشتهوا جميعا هذه المرأة في لحظة واحدة كيف سيعطون ما اشتهوا؟؟!! إلى غير ذلك من الأسئلة الباطلة التي ستترتب على هذا التصور الخاطئ للسائلة، والصواب والمخرج من هذا الباطل بأن نقرر أن أهل الجنة إنما يعطون ما يشتهون إذا دخلوها، وعندئذ فلن يشتهي أحدهم إلا ما يناسب حاله، فإن الناس في الدنيا تتفاوت شهواتهم وأمانيهم تفاوتا عظيما، ولهم في ذلك طرائف وعجائب بل ومخاز ، وراجعي أمثلة منها في الفتاوى التالية أرقامها: 97979، 125317، 111145، 122473.
رابعا: بالنسبة لاختصاص القرآن للرجال دون النساء بترغيبهم في الجنة بذكر الزوجات والحور العين، قد سبق لنا التنبيه على سببه في الفتوى رقم: 75647.
وسيأتي ذكر ذلك من كلام الشيخ ابن عثيمين، ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتاوى التالية أرقامها: 113673، 139447، 10579.
خامسا: بالنسبة لمسألة: المرأة لآخر أزواجها في الدنيا، فهذه مسألة قريبة، وفيها خلاف معتبر بين أهل العلم على ثلاثة أقوال، ذكرها العجلوني في كشف الخفاء بعد إيراد حديث: المرأة لآخر أزواجها ـ فقال: رواه الطبراني عن أبي الدرداء، ورواه الخطيب عن عائشة به، وهذا هو الصحيح، وقيل: لأحسنهم خلقا، وقيل: تخير. اهـ. وراجعي الفتوى رقم: 2207.
وقد رويت أحاديث تعضد القول الثاني، ولذلك رجحه طائفة من أهل العلم قديما وحديثا، ومنهم ابن كثير في النهاية في الفتن والملاحم حيث عقد فصلا في: المرأة تتزوج في الدنيا بأزواج وتكون في الجنة لمن كان في الدنيا أحسنهم خلقا.
ومنهم الشيخ ابن عثيمين، حيث سئل: إذا كانت المرأة لها زوجان في الدنيا فمع من تكون منهما؟ ولماذا ذكر الله الزوجات للرجال، ولم يذكر الأزواج للنساء؟ فأجاب بقوله: إذا كانت المرأة لها زوجان في الدنيا فإنها تخير بينهما يوم القيامة في الجنة وإذا لم تتزوج في الدنيا، فإن الله تعالى يزوجها ما تقر به عينها في الجنة، فالنعيم في الجنة ليس مقصورا على الذكور، وإنما هو للذكور والإناث، ومن جملة النعيم الزواج، وقول السائل: إن الله تعالى ذكر الحور العين، وهن زوجات، ولم يذكر للنساء أزواجا ـ فنقول: إنما ذكر الزوجات للأزواج، لأن الزوج هو الطالب، وهو الراغب في المرأة، فلذلك ذكرت الزوجات للرجال في الجنة، وسكت عن الأزواج للنساء، ولكن ليس مقتضى ذلك أنه ليس لهن أزواج، بل لهن أزواج من بني آدم. اهـ.
وقد اجتهد بعض أهل العلم في الجمع بين الأقوال، فقال المناوي في فيض القدير: لا يعارضه خبر أنه سئل عن المرأة يموت زوجها فتتزوج آخر ثم يموت فلمن هي؟ قال: لأحسنهما خلقا كان معها، لأن المراد به من فرق بينهما الطلاق لا الموت، لأنه إذا وقع على غير بأس فهو لسوء الخلق، لأنه أبغض الحلال إلى الله. اهـ.
وذهب الكلاباذي في معاني الأخبار إلى حمل الأحاديث المروية في كونها لأحسن أزواجها خلقا في الدنيا، على أمهات المؤمنين، لأن السائلة في الحديثين منهن ـ يعني أم حبيبة وأم سلمة ـ قال: فأخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة أدركت المراد فيه بقوله: لأحسنهما خلقا ـ وأحسن أزواجها خلقا معها: النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا أحد أحسن خلقا منه صلى الله عليه وسلم... أي أنت لي في الآخرة كما أنت لي في الدنيا... فإذا كانت لآخر أزواجها، وآخر أزواجها النبي صلى الله عليه وسلم كانت له، ويجوز أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: المرأة لآخر أزواجها ـ فيمن فرق بينهما الطلاق لا الموت لأن الطلاق إذا لم يكن من بأس فهو سوء الخلق... فإذا كان للمرأة زوج وفرق بينهما الطلاق من غير بأس كان ذلك لسوء خلق يكون في الرجل وقلة مداراة، فإذا كان الرجل حسن الخلق كانت فيه مرارة مع امرأته فيستمتع بها ويتحمل سوء خلقها فلا يفرق بينهما الطلاق... فإذا حسن خلق الرجل لا يكاد يفرق بينه وبين امرأته إلا الموت، أن يموت عنها فيكون آخر أزواجها أحسنهم خلقا معها فيتفق الخبران. اهـ.
وقال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية: لا مخالفة لإمكان الجمع بينهما، بأن يحمل الأول على من ماتت في عصمة زوج وقد كانت تزوجت قبله بأزواج فهذه لآخرهم، وكذا لو مات واستمرت بلا زوج إلى أن ماتت فتكون لآخرهم، لأن علاقته بها لم يقطعها شيء، وحمل الثاني على من تزوجت بأزواج ثم طلقوها كلهم فحينئذ تخير بينهم يوم القيامة فتختار أحسنهم خلقا، والتخيير هنا واضح لانقطاع عصمة كل منهم، فلم يكن لأحد منهم مرجح لاستوائهم في وقوع علقة لكل منهم بها مع انقطاعها، فاتجه التخيير حينئذ لعدم المرجح. اهـ.
وقال عليش في فتح العلي المالك: قال بعض المحققين: يمكن الجمع بأنها لمن ابتكرها ومات عنها من الأزواج حيث لم يرجح واحد منهم الآخر في حسن الخلق، وللآخر أن يتزوجها إذا طلقها الذي ابتكرها ولم يرجح واحد من الباقين على غيره منهم في حسن الخلق، ولأحسنهم خلقا حيث تفاوتوا في حسن الخلق. اهـ.
سادسا: قوله تعالى: جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم {الرعد:23}.
سبق لنا الاستدلال به على أن الزوج إذا دخل الجنة وكانت زوجته صالحة، فإنها تكون زوجته في الجنة، وعضدنا ذلك بقوله عز وجل: ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون {الزخرف:70}.
ثم قلنا: أما إذا تزوجت المرأة أكثر من زوج، ودخل جميعهم الجنة، فالراجح أنها لآخر أزواجها، كما سبق في الفتاوى التالية أرقامها: 19824، 113548، 195851.
فالمسألة لا تعدو مرتب الترجيح واختيار الأسعد بالدليل من أقوال أهل العلم، ولا ندري ما وجه الغرابة في الاستدلال بهذا الآية في هذا السياق؟ وأي فائدة في نص الآية على الجمع بين الرجل وبين زوجاته في الجنة، إذا كن سيتزوجن غيره؟؟!!! وبهذا يتضح وجه الاستدلال وخطأ السائلة في قولها: نعم سيدخل معها الجنة ولكن من يجزم بأنه سيتزوجها هناك؟!.
سابعا: نسبة السائلة تصحيح الحديث بمجموع طرقه إلى الشيخ الألباني وكأنه مذهب خاص به!! لا يقوله عارف بعلوم الحديث، فكلام أهل العلم معروف من قديم في التصحيح والتحسين بالشواهد والمتابعات!! وأما دعواها بأن الحديث ضعيف وأنه لم يرد من طريق واحد صحيح، فجوابه ما أورده البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة 4ـ115ـ بإسناد أبي يعلى الموصلي: حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن خالد القرشي، حدثنا أبو المليح، قال: عدت ميمون بن مهران قال: خطب معاوية أم الدرداء فأبت أن تزوجه، قالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرأة لآخر أزواجها ـ ولست أريد بأبي الدرداء بدلا ـ قال البوصيري: هذا إسناد رجاله ثقات. اهـ.
وقد أورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة: 1281ـ بإسناد القشيري في تاريخ الرقة، وأبي الشيخ في التاريخ، من وجهين آخرين عن إسماعيل بن خالد، وقال: وهذا إسناد صحيح. اهـ.
ثامنا: قول السائلة: أرجو منكم ألا تكون طبيعة الرجل الشرقية هي التي تتحكم في فتاويكم... إلخ، مما نعوذ بالله منه ونبرأ إليه تعالى، فالكلام في دين الله تعالى بغير علم: إثم كبير، وتحكيم الهوى في الشرع: غواية وضلال مبين، وتقديم شيء على الكتاب والسنة: عمى وزيغ خطير!! وفي الوقت نفسه فإن إلقاء التهم بغير تبصر: ظلم وبهتان، وإن كان سهلا على بعض النفوس فإنه عند الله عظيم، قال تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا {الأحزاب: 58}.
وقال سبحانه: ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا {النساء: 112}.
ونحن لا نقول ذلك إرهابا للسائلة، وإنما نقوله لتستغفر الله تعالى وتتوب إليه! وتتفكر في حالها وكلامها، وفي الحقيقة فنحن الذين نرجو ألا تكون طبيعة الأنثى الغربية هي التي تتحكم في آرائها!!.
والله أعلم.