الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق أن بينا طرفا من كلام العلماء في هذا الحديث في عدة فتاوى, منها الفتوى: 2359 فراجعها.
ونحن في جواب هذا السؤال نذكر طرفا من هذا الخلاف ملخصا فنقول: أهل العلم في هذا الحديث مختلفون طرائق شتى: فمنهم من يرى أن الكف عن الخوض في هذا الحديث ونحوه من متشابه الأثر أولى وأسلم, قال الشوكاني: قال النووي وغيره: وهو أسلم. اهـ
ومنهم من يسلك مسلك التأويل فيجتهد بما يراه موافقا للصواب، ونذكر من خلاف هؤلاء مذهبين:
1- أن الضمير عائد إلى آدم، قال الشوكاني: منها: أن الضمير في قوله: صورته راجع إلى آدم, وهذا هو الظاهر؛ لأن أقرب اللفظين هو المرجع في الغالب، ويتعين المصير إليه عند الاشتباه، ولا سيما إذا استلزم الإرجاع إلى البعيد لازما فاسدا, وهذا لا ينبغي أن يعد تأويلا, بل هو الظاهر, والمراد أن الله - جل جلاله - أخبر عباده على لسان نبيه أنه خلق آدم على الصورة التي رأوه عليها بلا زيادة ولا نقصان.
وقال المناوي: أي: على صورة آدم التي كان عليها من مبدأ فطرته إلى موته لم تتفاوت قامته, ولم تتغير هيئته.
وقال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم على صورته, طوله ستون ذراعا) هذا الحديث سبق شرحه وبيان تأويله, وهذه الرواية ظاهرة في أن الضمير في صورته عائد إلى آدم, وأن المراد أنه خلق في أول نشأته على صورته التي كان عليها في الأرض, وتوفي عليها, وهي: طوله ستون ذراعا, ولم ينتقل أطوارا كذريته, وكانت صورته في الجنة هي صورته في الأرض لم تتغير.
2 - أن الضمير عائد إلى الله تعالى, وقد ذكر شيخ الإسلام أن عامة السلف على ذلك، قال في بيان تلبيس الجهمية: والكلام على ذلك أن يقال هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله.
وفي بيان هذا المعنى يقول ابن عثيمين: هذا الحديث - أعني قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق آدم على صورته - ثابت في الصحيح، ومن المعلوم أنه لا يراد به ظاهره بإجماع المسلمين والعقلاء؛ لأن الله عز وجل وسع كرسيه السماوات والأرض، والسماوات والأرض كلها بالنسبة للكرسي - موضع القدمين - كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة, فما ظنك برب العالمين؟ لا أحد يحيط به وصفا, ولا تخيلا، ومن هذا وصفه لا يمكن أن يكون على صورة آدم ستون ذراعا, لكن يحمل على أحد معنيين:
الأول: أن الله خلق آدم على صورة اختارها، وأضافها إلى نفسه تعالى تكريما وتشريفا.
الثاني: أن المراد خلق آدم على صورته تعالى من حيث الجملة، ومجرد كونه على صورته لا يقتضي المماثلة, والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أضوأ كوكب في السماء, ولا يلزم أن تكون هذه الزمرة مماثلة للقمر؛ لأن القمر أكبر من أهل الجنة بكثير، فإنهم يدخلون الجنة طولهم ستون ذراعا، فليسوا مثل القمر.
أما ما سألت عنه ممن يقول بعود الضمير على آدم مع إثباته الصورة لله تعالى، فنقول: قد أخذ هذا القائل بقول قال به أهل العلم - كما تبين - ونحن نرى الأولى والأسلم لمن حاله ما ذكرت أن يدع الخوض والتعمق في هذا الأمر, ويكف عن ذلك، فلا تبلغ هذه المسألة في العقيدة حدا لا بد للمسلم فيه من مسلك معين.
ويجدر التنبيه إلى أن ثبوت الصورة لله تعالى مما دل عليه القرآن والسنة, وهو الذي عليه السلف الصالح من هذه الأمة، قال شيخ الإسلام: الوجه العاشر: ثبوت الوجه والصورة لله قد جاء في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة المتواترة, واتفق على ذلك سلف الأمة.
أما ما سألت عنه من واجبنا تجاه هذا الحديث: فحسبنا فيه أن نستيقن أنه مصروف عن ظاهره المتبادر منه إجماعا، وأن نعتقد تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به، كما تقدم قول ابن عثيمين: ومن المعلوم أنه لا يراد به ظاهره بإجماع المسلمين والعقلاء.
والله أعلم.