الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن التوسل بالأنبياء والصالحين بمعنى سؤال الله بذواتهم، كقول: اللهم إني أسألك بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو أدعوك بحق فلان، فيه خلاف مشهور بين المتأخرين، وأما الأئمة المتقدمون: فقد نص أبو حنيفة على كراهته، جاء في شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي: وإن كان مراده الإقسام على الله، فذلك محذور أيضا، لأن الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز، فكيف على الخالق؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: من حلف بغير الله فقد أشرك ـ ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، والمشعر الحرام، ونحو ذلك حتى كره أبو حنيفة ومحمد ـ رضي الله عنهما ـ أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ولم يكرهه أبو يوسف ـ رحمه الله ـ لما بلغه الأثر فيه. اهـ.
وقال ابن تيمية: وأما إذا قال: أسألك بمعاقد العز من عرشك ـ فهذا فيه نزاع، رخص فيه غير واحد، لمجيء الأثر به، ونقل عن أبي حنيفة كراهته، قال أبو الحسين القدوري في شرح الكرخي: قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة رحمه الله: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشه هو الله، فلا أكره هذا، وأكره: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام، بهذا الحق يكره، قالوا جميعا: فالمسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا يجوز أن يسأل بما ليس مستحقا ولكن معقد العز من عرشك هل هو سؤال بمخلوق أو خالق؟ فيه نزاع بينهم، فلذلك تنازعوا فيه، وأبو يوسف بلغه الأثر فيه: أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة، فجوزه لذلك. اهـ.
والكراهة قد تطلق عند المتقدمين والمراد بها التحريم، قال ابن تيمية: والكراهية في كلام السلف كثيرا وغالبا يراد بها التحريم. اهـ.
وأما الإمام مالك: فلم ينقل عنه جواز هذا النوع من التوسل، قال ابن تيمية: وهذا التوسل بالأنبياء ـ بمعنى السؤال بهم ـ وهو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم: إنه لا يجوز، ليس في المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك، فضلا أن يجعل هذا من مسائل السب، فمن نقل عن مذهب مالك: أنه جوز التوسل به بمعنى الإقسام به أو السؤال به فليس معه في ذلك نقل عن مالك وأصحابه فضلا عن أن يقول مالك: إن هذا سب للرسول أو تنقص به، بل المعروف عن مالك أنه كره للداعي أن يقول: يا سيدي سيدي، وقال: قل كما قالت الأنبياء: يا رب، يا رب، يا كريم، وكره أيضا أن يقول: ياحنان يامنان، فإنه ليس بمأثور عنه فإذا كان مالك يكره مثل هذا الدعاء، إذ لم يكن مشروعا عنده، فكيف يجوز عنده أن يسأل الله بمخلوق نبيا كان أو غيره؟!. اهـ.
وأما الإمام أحمد فقد نقل ابن تيمية عنه مشروعية التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وقد ذكر المروذي في منسكه عن الإمام أحمد بن حنبل أن الداعي المسلم على النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل به في دعائه، فهذا النقل يجعل معارضا لما نقل عن أبي حنيفة وغيره. اهـ.
ولم نقف على كلام للإمام الشافعي في هذه المسألة، وفي كلام ابن تيمية أنه نقل عن المتقدمين، فقد قال: بخلاف قولهم أسألك بجاه نبينا أو بحقه، فإن هذا مما نقل عن بعض المتقدمين فعله، ولم يكن مشهورا بينهم ولا فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل السنة تدل على النهي عنه، كما نقل ذلك عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما. اهـ.
لكن جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة يرون جواز هذا النوع من التوسل، كما ذكرنا في الفتوى رقم: 11669
وقد ذكرنا بعض أدلتهم في الفتوى رقم: 17593.
وهذا النوع من التوسل الراجح أنه محرم وليس بمشروع، إلا أن هذه المسألة من مسائل الاجتهاد التي يسوغ فيها الخلاف، قال ابن تيمية: وساغ النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الإقسام بهم، لأن بين السؤال والإقسام فرقا، فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى أنه يبر قسمه. اهـ.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: قولهم في الاستسقاء: لا بأس بالتوسل بالصالحين، وقول أحمد: يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، مع قولهم إنه لا يستغاث بمخلوق، فالفرق ظاهر جدا، وليس الكلام مما نحن فيه، فكون بعض يرخص بالتوسل بالصالحين وبعضهم يخصه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء ينهي عن ذلك ويكرهه، فهذه المسألة من مسائل الفقه، ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور إنه مكروه فلا ننكر على من فعله، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، لكن إنكارنا على من دعا لمخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى، ويقصد القبر يتضرع عند ضريح الشيخ عبد القادر أو غيره يطلب فيه تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإعطاء الرغبات، فأين هذا ممن يدعو الله مخلصا له الدين لا يدعو مع الله أحدا، ولكن يقول في دعائه: أسألك بنبيك، أو بالمرسلين، أو بعبادك الصالحين، أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده، لكن لا يدعو إلا الله مخلصا له الدين، فأين هذا مما نحن فيه؟. اهـ.
وانظر للفائدة الفتويين رقم: 58306، ورقم: 138103.
وننبه إلى الفرق الواضح الجلي بين هذا التوسل المختلف فيه، وبين الاستغاثة الشركية المتفق على منعها، فالأول: سؤال لله تعالى بجاه أو حق خلقه، والثاني: سؤال للمخلوق والتجاء إليه، وهذا هو الشرك الصريح، وهو محرم بإجماع المسلمين وحرمته مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، قال ابن تيمية: فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين. اهـ.
وكثير من الناس يخلطون بين المسألتين، وقد مضى بيان ذلك في الفتويين رقم: 3835، ورقم: 3779.
وكذلك ينبغي التفريق بين التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، وبين طلب الدعاء منه صلى الله عليه وسلم بعد موته فإن طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته محرم، ولم يقل بجوازه أحد من أئمة المسلمين، قال الحافظ ابن عبد الهادي في الصارم المنكي في الرد على السبكي: أما دعاؤه هو صلى الله عليه وسلم وطلب استغفاره وشفاعته بعد موته: فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين ـ لا من الأئمة الأربعة ولا غيرهم ـ بل الأدعية التي ذكروها خالية من ذلك. هـ.
وقد بينا ذلك في الفتويين رقم: 128815، ورقم: 187225.
والله أعلم.