السؤال
رجل في حال حياته قسم الميراث فأعطى لأبنائه دون البنات، مع وجودهن في حال تقسيم الميراث. ثم توفي الأب، وبعد وفاة الأب طالبن الإخوان بميراثهن. فهل في هذه الحالة لهن من الميراث شيء أم لا؟
مأجورين، والتوفيق والسداد.
رجل في حال حياته قسم الميراث فأعطى لأبنائه دون البنات، مع وجودهن في حال تقسيم الميراث. ثم توفي الأب، وبعد وفاة الأب طالبن الإخوان بميراثهن. فهل في هذه الحالة لهن من الميراث شيء أم لا؟
مأجورين، والتوفيق والسداد.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما فعله والد هؤلاء - عفا الله عنه، ورحمه، وغفر له - من تخصيصه في حياته بعض أولاده بهبة دون بعض، لغير معنى يقتضي تخصيصهم، هو مذموم شرعا سواء أحصل منهم القبض أم لم يحصل، صحت الهبة أم لم تصح، وهو محرم عند جمع من أهل العلم.
قال ابن قدامة في المغني: ولنا ما روى النعمان بن بشير قال: { تصدق علي أبي ببعض ماله, فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقته, فقال: أكل ولدك أعطيت مثله؟ قال: لا. قال: فاتقوا الله, واعدلوا بين أولادكم. قال: فرجع أبي, فرد تلك الصدقة}. وفي لفظ قال: " فاردده" . وفي لفظ قال: " فأرجعه ". وفي لفظ: " لا تشهدني على جور " وفي لفظ: " فأشهد على هذا غيري ". وفي لفظ: " سو بينهم ". وهو حديث صحيح, متفق عليه. وهو دليل على التحريم؛ لأنه سماه جورا, وأمر برده, وامتنع من الشهادة عليه, والجور حرام, والأمر يقتضي الوجوب؛ ولأن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء، وقطيعة الرحم, فمنع منه, كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها. اهـ.
والحديث في الصحيحين، وسنن أبي داود والنسائي والمسند وغيرها.
وأما كيفية العدل بين الأولاد ذكورهم وإناثهم في الهبة والعطية، فعلى قولين لأهل العلم قد بيناهما في الفتوى رقم: 112748.
وذكرنا أن المرجح عندنا هو التسوية بين الذكور والإناث، دون تفضيل للذكور على الإناث بشيء.
وأما إن كان التفضيل بين الأولاد في العطية لمعنى يقتضي التفضيل، فذلك جائز.
قال في المغني: فإن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه, مثل اختصاصه بحاجة, أو زمانة, أو عمى, أو كثرة عائلة, أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل. أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه, أو بدعته, أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله, أو ينفقه فيها, فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك.
وليس مجرد الذكورة أو الأنوثة بمجيز للتخصيص، خاصة إذا كان ذلك يستغرق كل المال بحيث يكون حيلة لحرمان البقية من الإرث.
وهذا الذي ذكرناه إنما هو في حكم أصل الإعطاء على النحو المذكور. وأما صحة الهبة ونفوذها وحصول ملكهم بها، فإن كان الذكور قد قبضوا ما خصص لهم والدهم في حال صحته، وكان القبض قبل وفاته، ففي نفاذ الهبة ودخولها في ملك الموهوب خلاف بين أهل العلم.
قال ابن تيمية- رحمه الله - وقد سئل عن رجل له أولاد ذكور وإناث، فنحل البنات دون الذكور قبل وفاته. فهل يبقى في ذمته شيء أم لا؟ -
الجواب: لا يحل له أن ينحل بعض أولاده دون بعض، بل عليه أن يعدل بينهم كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ـ وكان رجل قد نحل بعض أولاده وطلب أن يشهده، فقال: إني لا أشهد على جور، وأمره برد ذلك. فإن كان ذلك بالكلام ولم يسلم إلى البنات ما أعطاهم حتى مات، أو مرض مرض الموت، فهذا مردود باتفاق الأئمة ـ وإن كان فيه خلاف شاذ ـ وإن كان قد أقبضهم في الصحة، ففي رده قولان للعلماء. والله أعلم. اهـ الفتاوى الكبرى.
قال في المغني: ( فإن مات ولم يرده, فقد ثبت لمن وهب له, إذا كان ذلك في صحته ) يعني إذا فاضل بين ولده في العطايا, أو خص بعضهم بعطية, ثم مات قبل أن يسترده, ثبت ذلك للموهوب له, ولزم, وليس لبقية الورثة الرجوع. هذا المنصوص عن أحمد" قال: "وبه قال مالك, والشافعي, وأصحاب الرأي, وأكثر أهل العلم.
قال: ولا خلاف في أنه يستحب لمن أعطي أن يساوي أخاه في عطيته, ولذلك أمر أبو بكر، وعمر -رضي الله عنهما-, قيس بن سعد, برد قسمة أبيه ليساووا المولود الحادث بعد موت أبيه.
وهذا قول جمهور أهل العلم.
وهذا كله إن كان الأبناء قد قبضوا ذلك في حياة أبيهم، فإن كان مجرد قسمة لما بعد الموت ــ كوصية ــ كلامية كانت أم مكتوبة، أو كان هبة، فمات الأب قبل قبضهم إياها، قام الورثة مقام أبيهم، وبطل إذنه السابق، وانتقل الإذن إليهم، وكانوا بالخيار، فإن شاءوا أمضوا الهبة، وإن شاءوا فلهم فسخها والمنع منها.
والحجة في ذلك إجماع الصحابة، إذ قد روي عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس -رضي الله عنهم أجمعين- أنهم قالوا: لا تجوز الهبة إلا مقبوضة محوزة.
جاء في الموسوعة الفقهية: وإذا مات أي من الواهب أو الموهوب له، لم ينفسخ العقد على المعتمد. وقام ورثة كل واحد مقامه، أي أن وارث الواهب يقوم مقام الواهب في الإقباض، والإذن في القبض... ولو أذن الواهب بالقبض ثم مات، بطل الإذن. اهـ.
فالخلاصة مما مر: أنهم إن قبضوا الهبة في حياة الأب في غير مرض الموت، نفذت وملكوها على قول الجمهور، مع إثم الأب والأبناء عند جمع معتبر من أهل العلم، إذ قد سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك جورا وظلما، وأمر بتقوى الله في ذلك. ولا يملكونها على قول قوي لبعض السلف؛ لأنه ظلم فلا يقع به التملك.
وإن كانوا لم يقبضوها في حياته، فبقية الورثة بالخيار، لهم إمضاؤها ولهم فسخها، ويرجع في تحديد ورثة المتوفى إلى المحاكم الشرعية بالدولة.
هذا وننصح هؤلاء الأبناء أن يتقوا الله في أبيهم وأخواتهم، وأن لا يفعلوا ما قد ينبت البغضاء بينهم، ويقطعون به رحمهم، وألا يكونوا سببا في حمل البنات في قلوبهن على أبيهن شيئا، وأن يدعو لوالدهم بالعفو والمغفرة على ما فعله، وأن يردوا القسمة إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، تحقيقا للعدل؛ لئلا يمضوا ظلما قام به والدهم، كما جاء في الحديث الصحيح: انصر أخاك ظالما أو مظلوما. فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره.
والأب أولى الناس ببره ونصره، بمنعه من ظلم يلقى الله عز وجل به، وفي ردهم ما أخذوا إلى الورثة نصر لأبيهم، ونصر لأخواتهم المظلومات، وبر بأبيهم وصلة لرحمهم، ففيه الجمع بين الحسنيين.
والله أعلم .