الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فتعريف المشرك بأنه الذي يحارب الإسلام ليس إلا هروبا من هذا النص القاطع بتحريم الجنة على المشرك وأن مصيره إلى النار! ولا يمكن لمنصف أن يقرأ سياق الآيات ثم يفسر الشرك بمحاربة الإسلام، خاصة وأن الله تعالى قال بعد هذه الآية: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم {المائدة: 73}.
فالآيات تدور حول وحدانية الله تعالى، وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، وقد قال الله تعالى: ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين {الأعراف: 50}.
وعلى أية حال، فإننا نذكر أختك بأن الله تعالى لما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام قال بعد أن أثنى عليهم: ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون {الأنعام: 88}.
والأنبياء أعظم الناس نفعا للناس، فكيف بمن هو دون الأنبياء؟! قال السعدي في تيسيره: ولو أشركواـ على الفرض والتقدير: لحبط عنهم ما كانوا يعملون ـ فإن الشرك محبط للعمل، موجب للخلود في النار، فإذا كان هؤلاء الصفوة الأخيار، لو أشركوا ـ وحاشاهم ـ لحبطت أعمالهم، فغيرهم أولى. اهـ.
وقد خاطب الله تعالى أفضل رسله صلى الله عليه وسلم فقال: قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون * ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين {الزمر: 64ـ 65}.
قال السعدي: وذلك لأن الشرك بالله محبط للأعمال، مفسد للأحوال، ولهذا قال: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك ـ من جميع الأنبياء: لئن أشركت ليحبطن عملك ـ هذا مفرد مضاف يعم كل عمل، ففي نبوة جميع الأنبياء: أن الشرك محبط لجميع الأعمال.. ولتكونن من الخاسرين ـ دينك وآخرتك، فبالشرك تحبط الأعمال، ويستحق العقاب والنكال. اهـ.
والشرك هو الذنب الوحيد الذي لا يغفره الله إن مات عليه صاحبه، كما قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما {النساء: 48}.
وقال عز وجل: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا {النساء: 116}.
ولذلك لا يكون لمن مات على الشرك خلاص من الهلاك المحقق، قال تعالى: فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور* حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق {الحج: 30ـ 31}.
قال الشنقيطي في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن من أشرك بالله غيره أي ومات ولم يتب من ذلك فقد وقع في هلاك لا خلاص منه بوجه ولا نجاة معه بحال، لأنه شبهه بالذي خر ـ أي سقط من السماء إلى الأرض فتمزقت أوصاله، وصارت الطير تتخطفها وتهوي بها الريح فتلقيها في مكان سحيق: أي محل بعيد لشدة هبوبها بأوصاله المتمزقة، ومن كانت هذه صفته فإنه لا يرجى له خلاص ولا يطمع له في نجاة، فهو هالك لا محالة، لأن من خر من السماء إلى الأرض لا يصل الأرض عادة إلا متمزق الأوصال، فإذا خطفت الطير أوصاله وتفرق في حواصلها، أو ألقته الريح في مكان بعيد، فهذا هلاك محقق لا محيد عنه. اهـ.
وأما الأحاديث النبوية في هذه المسألة فكثيرة، منها: حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل: يا رسول الله؛ الذي قلت له إنه من أهل النار، فإنه قد قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى النار، قال: فكاد بعض الناس أن يرتاب، فبينما هم على ذلك، إذ قيل: إنه لم يمت ولكن به جراحا شديدا، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله، ثم أمر بلالا فنادى بالناس: إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. رواه البخاري ومسلم.
وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك، فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار. رواه البخاري.
وقد بوب ابن حبان على نحو هذا الحديث بقوله: باب ذكر الخبر الدال على أن الإسلام ضد الشرك.
ومنها: حديث ابن مسعود قال: كنا مع النبي في قبة فقال: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: والذي نفس محمد بيده؛ إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر. رواه البخاري ومسلم.
ومنها: حديث ابن عمر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أبي كان يصل الرحم وكان وكان، فأين هو؟ قال: في النار، قال فكأنه وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله! فأين أبوك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار. رواه ابن ماجه، وصححه البوصيري والألباني.
ومن فوائده: القطع لكل مشرك بالنار، كما ذكر التويجري في كتاب: إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة.
وقال السفاريني في الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية:
وجنة النعيم للأبرار مصونة عن سائر الكفار.
فقال ابن القاسم في حاشيته عليها: أي: جنة النعيم، محفوظة محمية عن جميع الكفار، فإن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة. اهـ.
وقال النووي في شرح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ـ هذا نص صريح في أن من مات على الكفر لا يدخل الجنة أصلا، وهذا النص على عمومه بإجماع المسلمين. اهـ.
وقال ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل: برهان هذا قوله تعالى: فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ـ وقد علمنا ضرورة أنه لا دار إلا الجنة، أو النار، وأن الجنة لا يدخلها إلا المؤمنون المسلمون فقط، ونص الله تعالى على أن النار لا يدخلها إلا المكذب المتولي، والمتولي المكذب كافر بلا خلاف، فلا يخلد في النار إلا كافر، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن، فصح أنه لا دين إلا الإيمان والكفر فقط. اهـ.
وراجعي الفتاوى التالية أرقامها: 63969، 174733، 5750.
وأما أعمال الخير التي يعملها المشركون والكافرون في الدنيا: فإن الله تعالى يجازيهم عليها في الدنيا، وليس لهم في الجنة من نصيب، قال تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون* أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون {هود: 15ـ 16}.
وقال سبحانه: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب {الشورى: 20}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها. رواه مسلم.
ومن شواهد ذلك حديث عدي بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله؛ إن أبي كان يصل الرحم، ويفعل كذا وكذا، قال: إن أباك أراد أمرا فأدركه ـ يعني الذكر ـ الشهرة. رواه أحمد والطيالسي وابن حبان.
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. رواه مسلم.
وقد نص القرآن على ذلك فقال الله تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا {الفرقان:23}.
وقال عز وجل: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا *أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا* ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا {الكهف:103ـ 106}.
وراجع في ذلك الفتويين رقم: 56735، ورقم: 114257.
والله أعلم.