السؤال
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى ـ ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يورد ممرض على مصح ـ قال أبو سلمة: كان أبو هريرة يحدثهما كلتيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله: لا عدوى ـ وأقام على أن لا يورد ممرض على مصح، قال فقال الحارث بن أبي ذباب ـ وهو ابن عم أبي هريرة: قد كنت أسمعك، يا أبا هريرة، تحدثنا مع هذا الحديث حديثا آخر، قد سكت عنه، كنت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عدوى ـ فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك، وقال: لا يورد ممرض على مصح ـ فماراه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة فرطن بالحبشية، فقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟ قال: لا، قال أبو هريرة: قلت: أبيت، قال: أبو سلمة: ولعمري، لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى ـ فلا أدرى أنسي أبو هريرة، أو نسخ أحد القولين الآخر؟ الراوي: أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، المحدث: مسلم، المصدر: صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم:2221، خلاصة حكم المحدث: صحيح، فما معنى الحديث؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
المعنى أن أبا هريرة كان يحدث بحديث: لا عدوىـ وسيأتي معناه، وحديث: لا يورد ممرض على مصح ـ قال ابن رجب والممرض: صاحب الإبل المريضة والمصح: صاحب الإبل الصحيحة، والمراد النهي عن إيراد الإبل المريضة على الصحيحة.
ثم إن أبا هريرة نسي حديث: لا عدوى ـ فذكروه بذلك، فلم يتذكر، وتتعلق بالحديثين مسائل منها:
1ـ يستحيل التعارض من كل وجه بين حديثين ثابتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير في الباعث الحثيث: والتعارض بين الحديثين: قد يكون بحيث لا يمكن الجمع بينهما بوجه، كالناسخ والمنسوخ، فيصار إلى الناسخ ويترك المنسوخ، وقد يكون بحيث يمكن الجمع، ولكن لا يظهر لبعض المجتهدين، فيتوقف حتى يظهر له وجه الترجيح بنوع من أقسامه، أو يهجم فيفتي بواحد منهما، أو يفتي بهذا في وقت، كما يفعل أحمد في الروايات عن الصحابة، وقد كان الإمام أبو بكر بن خزيمة يقول: ليس ثم حديثان متعارضان من كل وجه، ومن وجد شيئا من ذلك فليأتي لأؤلف له بينهما.
2ـ يستحيل أن يتعارض نص شرعي، وحقيقة كونية.
3ـ لا إشكال أن يكون بين الحديثين اختلاف صوري، وهذا الباب يسمى عند العلماء بمختلف الحديث، أحاديث ظاهرها التعارض، والواقع أنه لا تعارض بينها عند تأمل العالم البصير.
4ـ جمع العلماء بين هذين الحديثين على أوجه، منها: قال ابن حجر في نزهة النظر: ووجه الجمع بينهما: أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، لكن الله سبحانه وتعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سببا لإعدائه مرضه، ثم قد يتخلف ذلك عن سببه، كما في غيره من الأسباب، كذا جمع بينهما ابن الصلاح، تبعا لغيره، والأولى في الجمع أن يقال: إن نفيه صلى الله عليه وسلم للعدوى باق على عمومه، وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم: لا يعدي شيء شيئا ـ وقوله صلى الله عليه وسلم لمن عارضه بأن البعير الأجرب يكون في الإبل الصحيحة فيخالطها فتجرب، حيث رد عليه بقوله: فمن أعدى الأول؟! يعني أن الله سبحانه وتعالى ابتدأ بذلك في الثاني كما ابتدأه في الأول، وأما الأمر بالفرار من المجذوم، فمن باب سد الذرائع، لئلا يتفق للشخص الذي يخالطه شيء من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداء، لا بالعدوى المنفية، فيظن أن ذلك بسبب مخالطته، فيعتقد صحة العدوى، فيقع في الحرج، فأمر بتجنبه حسما للمادة، والله أعلم. انتهى.
والوجه الأول الذي ذكره وعزاه لابن الصلاح أقرب، وهو قول جمهور العلماء، وعليه الأطباء كافة، ويشهد له أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب قوما، يعتقدون أن الشيء يعدي بنفسه، فقوله: لا عدوى ـ متوجه إلى هذا الاعتقاد يوضحه: ما قاله الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف: وأظهر ما قيل في ذلك: أنه نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك، ويدل على هذا قوله: فمن أعدى الأول؟ يشير إلى أن الأول، إنما جرب بقضاء الله وقدره فكذلك الثاني وما بعده.... فأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصح وأمره بالفرار من المجذوم ونهيه عن الدخول إلى موضع الطاعون، فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها أسبابا للهلاك أو الأذى، والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان في عافية منها، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء، أو في النار أو يدخل تحت الهدم ونحوه مما جرت العادة بأنه يهلك، أو يؤذي فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم، أو القدوم على بلد الطاعون، فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، والله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره ولا مقدر غيره. انتهى.
واختاره النووي في شرح مسلم: قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين وهما صحيحان، قالوا وطريق الجمع أن حديث لا عدوى المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدى بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث لا يورد ممرض على مصح فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره، فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الحديثين والجمع بينهما هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء ويتعين المصير إليه، ولا يؤثر نسيان أبى هريرة لحديث لا عدوى لوجهين: أحدهما: أن نسيان الراوي للحديث الذي رواه لا يقدح في صحته عند جماهير العلماء، بل يجب العمل به، والثاني: أن هذا اللفظ ثابت من رواية غير أبي هريرة، فقد ذكر مسلم هذا من رواية السائب بن يزيد وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، واابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحكى المازري والقاضي عياض عن بعض العلماء أن حديث: لا يورد ممرض على مصح ـ منسوخ بحديث: لا عدوى ـ وهذا غلط لوجهين: أحدهما: أن النسخ يشترط فيه تعذر الجمع بين الحديثين، ولم يتعذر، بل قد جمعنا بينهما، والثاني: أنه يشترط فيه معرفة التاريخ وتأخر الناسخ، وليس ذلك موجودا هنا. انتهى.
5ـ اختلف العلماء فيما إذا نسي الراوي روايته، هل يحتج بها أم لا؟ قال ابن حجر في نزهة النظر: وإن روى عن شيخ حديثا فجحد الشيخ مرويه: فإن كان جزما: كأن يقول: كذب علي، أو: ما رويت هذا، أو نحو ذلك، فإن وقع منه ذلك رد ذلك الخبر لكذب واحد منهما، لا بعينه، ولا يكون ذلك قادحا في واحد منهما، للتعارض، أو كان جحده احتمالا، كأن يقول: ما أذكر هذا أو لا أعرفه، قبل ذلك الحديث في الأصح، لأن ذلك يحمل على نسيان الشيخ، وقيل: لا يقبل، لأن الفرع تبع للأصل في إثبات الحديث، بحيث إذا أثبت الأصل الحديث ثبتت رواية الفرع، وكذلك ينبغي أن يكون فرعا عليه، وتبعا له ـ في التحقيق ـ في النفي، وهذا متعقب، فإن عدالة الفرع تقتضي صدقه، وعدم علم الأصل لا ينافيه، فالمثبت مقدم على النافي، وأما قياس ذلك بالشهادة: ففاسد، لأن شهادة الفرع لا تسمع مع القدرة على شهادة الأصل، بخلاف الرواية، فافترقا، وفيه ـ أي: في هذا النوع ـ صنف الدارقطني كتاب: من حدث ونسي ـ وفيه ما يدل على تقوية المذهب الصحيح، لكون كثير منهم حدثوا بأحاديث فلما عرضت عليهم لم يتذكروها، لكنهم، لاعتمادهم على الرواة عنهم، صاروا يروونها عن الذين رووها عنهم، عن أنفسهم كحديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا في قصة الشاهد واليمين، قال عبد العزيز بن محمد الدراوردي: حدثني به ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سهيل، فلقيت سهيلا فسألته عنه فلم يعرفه، فقلت: إن ربيعة حدثني عنك بكذا، فكان سهيل بعد ذلك يقول: حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي به، ونظائره كثيرة. انتهى.
وإن كان هذا الخلاف لا يرد في حديثنا، لأنه مروي عن غير أبي هريرة، كما تقدم في كلام الإمام النووي رحمه الله.
والله أعلم.